يُعد الدبلوماسي الروسي المُحنّك، بيتر ستيغبي، من أكثر الدبلوماسيين الروس إلماماً بتاريخ بلادهم، ترأس قسم دراسة وتحليل الوثائق التاريخية في وزارة الخارجية، وشغل مناصب دبلوماسية كثيرة، وعُيّن سفيرا لبلاده في عدة دول منها تركيا. وحديثا أجرت قناة «RT» حواراً معه يروي فيه بأنه عندما كان سفيراً في أنقرة خلال مطلع العقد الماضي، دُعي لحفل افتتاح متحف خاص بهزيمة أسطول الامبراطورية العثمانية في خليج «تشيسما» على يد الأسطول الروسي الذي تمكن من حرق وإغراق كامل قطع الأسطول الراسية عند ميناء «تشيسما»، وانتهت هذه المعركة بإجبار الدولة العثمانية على توقيع معاهدة مُذلة تُعرف بـ «معاهدة كيتشوك كينارجي» عُقدت سنة 1768 في بلغاريا، وسلمت بموجبها بتبعية القرم لروسيا وإنهاء سيادتها في البحر الأسود.
لكن السفير الروسي ستيغني تملكته الدهشة الشديدة من تأسيس متحف كهذا لذكرى هزيمة عسكرية للأتراك، لذا فإنه بعد انتهاء الجولة الاستطلاعية للمتحف الذي تشتمل أركانه على بقايا سفن الأسطول التركي التي تم انتشالها من قاع البحر، وبضعة مدافع لقطع الأسطول الروسي المنتصر والذي أغرق الأسطول العثماني عن بكرة أبيه، وشروحات مختصرة لكيفية انتصار الأسطول الروسي، وأسباب هزيمة الأسطول التركي، سأل ضابطاً بحرياً من الضباط المتقاعدين الذين بادروا إلى تأسيس «متحف الهزيمة»: ما مغزى تأسيس متحف يُذكّركم وأجيالكم المتعاقبة بأكبر هزيمة لأسطولكم البحري في التاريخ؟ فأجابه الأدميرال بالحرف الواحد «يجب على كل أمة عظيمة أن تعرف وتحلل هزائمها قبل أن تعرف وتحلل انتصاراتها»، فانبهر السفير الروسي المُحنّك من هذه الإجابة، وأبدى إعجابه الشديد بها، وظل ومازال -بحسب قوله- يستشهد بها في لقاءاته الكثيرة، ويعيد رواية المناسبة التي قيلت فيها.
بيد أن تلك المقولة ذكرتني على الفور بنكسة يونيو/ حزيران 1967 التي تمر ذكراها الـ 49 هذه الأيام، والتي هزمت فيها اسرائيل خلال 6 أيام فقط جيوش 3 دول عربية (مصر وسورية والاردن) وأخطرها بالطبع هزيمة جيش الأولى. وبطبيعة الحال لم تكن النكسة مجرد أخطر هزيمة عسكرية قاصمة يُمنىٰ بها العرب في تاريخهم الحديث؛ بل والمسئولة أيضاً على مدى نصف قرن منذ وقوعها حتى الآن عن كل التداعيات والهزائم المتعاقبة التي مُني بها العرب على مختلف الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وما أفضت إليه مجتمعةً من تقهقر حضاري مُريع غير مسبوق في تاريخهم، منذ اُفول الدولة الأندلسية قبل 5 قرون ونيف.
ولعل النموذج الأبرز له في مرحلتهم التاريخية الراهنة نجد تعبيره الصارخ في تنظيم «داعش» وما تمثله دولته «الدولة الاسلامية» من أشد صور الانحطاط والوحشية والبربرية بما يُذكّرك بالمراحل البدائية الغابية الأولى من تاريخ البشرية، قبل ولوجها طور التحضر، وعلى نحو يفوق ما عُرف عن المجتمع الجاهلي قبل الإسلام؛ لكنه لم يخلُ من أعراف وقيم انسانية مرعية أقرها الاسلام بعد نزوله ونظّم وطوّر بعضها الآخر، في حين أنك لا تجد خصلة انسانية واحدة تُذكر لداعش. وبالجملة يمكن القول إن كل مُحلل متتبع لأسباب ما مر به العرب من حوادث جسام، وزلازل وتراجعات وتمزق وحروب أهلية وأقليمية سينتهي به الأمر إلى أن السبب الرئيسى الذي يقف خلف كل ذلك هو «العامل التاريخي» ممثلاً في هزيمة يونيو 67، وما ترتب عليها من انكسار للمشروع القومي الذي كانت مصر -بثقلها السكاني والحضاري المعاصر- النموذج الأبرز المؤهل لقيادته، وبخاصة بعد الرحيل السريع المفاجئ لرائده رئيسها جمال عبدالناصر بعد 3 سنوات فقط من الهزيمة.
وإذ يعلمنا التاريخ الحديث أن الدول الديمقراطية التي تمر بهزائم تعرف كيف تتعظ وتتعافى منها عبر استخلاص عِبرها ودروسها، فإن استنكاف دول الهزيمة، وعلى الأخص مصر، منذ نكسة 67 حتى ما بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2001، عن اجراء مراجعة جذرية شاملة جادة وصريحة لأسباب الهزيمة إنما هو السبب الرئيسي الذي يقف خلف عجز العرب عن النهوض مجدداً من الركام السياسي والحضاري الذي خلّفته ومازالت تخلّفه النكسة أضعافاً تترا. وغني عن القول: لا قيمة لأي مراجعات ودراسات تحلل عوامل الهزيمة في ظل تغييب الديمقراطية، ولو بحدودها الدُنيا، باعتبارها تتيح حق الإطلاع على كل الوثائق التاريخية والدلالات الحسية والشهادات التي تكشف مكامن الخلل الخطيرة في تلك الهزيمة، فمن المفهوم أن يأتي حق الحصول على المعلومات او الوثائق الرسمية السرية بعد مضي فترة معقولة من السنين، عادة ما تُحدد في الدول الديمقراطية بفترة لا تتجاوز الـ 25 عاماً وليس الـ50 عاماً، كما هو حاصل الآن مع وثائق حرب 67 ، وربما تطول أكبر من ذلك لأجل غير معلوم.
وإذا كان ثمة اسباب مُعقدة ومتشابكة موضوعياً وذاتياً تحول دون الكشف سريعاً عن مجمل الوثائق الرسمية للهزيمة، لا الاكتفاء ببعضها، في الفترة الانتقالية الراهنة العصيبة التي تمر بها مصر، فإن المأمول من رئيسها الحالي عبدالفتاح السيسي تحيّن أقرب فرصة مواتية للإقدام على خطوة شجاعة كهذه، لاسيما وهو القائد العسكري الأعلى، اقتداءً ببادرة الجنرالات المتقاعدين الأتراك بتأسيسهم متحف هزيمة أسطولهم البحري قبل 250 عاماً، وبحيث يشمل «متحف النكسة» مقتنيات المعدات والآليات العسكرية المعطوبة والمدمرة في حرب67، وبقايا طائرات الأسطول الجوي التي دُمرت برمتها وهي رابضة في قواعدها (تماماً كما حصل لقطع الأسطول البحري التركي التي اُحرقت بأكملها وهي راقدةً مطمئنة عند مرساها في تشيسما)، وكذلك صور الجنود والضباط الأبطال المصريين الذين أبلوا بلاءً بطولياً حسناً في معارك جرت في ظروف غير متكافئة مع العدو، جنباً إلى جنب مع صور القيادات العسكرية والسياسية التي تسببت في عار الهزيمة، ولا بأس من أن يشمل المتحف أيضاً عرضاً بانورامياً شبيها بمتحف «بانوراما حرب 6 اكتوبر 1973» في القاهرة، وذلك لما هو متوقع أن يتركه متحف كهذا من تأثير في نفوس المصريين والعرب الشباب لتحفيزهم واستنهاض هممهم نحو الاتعاظ بتلك الهزيمة التاريخية المريرة، وتجاوز تركتها الثقيلة، ويالها من تركة آخذة في التعاظم طردياً.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5022 - الإثنين 06 يونيو 2016م الموافق 30 شعبان 1437هـ