أول ما فتحتُ عينيَّ على التجارب القصصية هنا، شدَّتني تجربة القاص والروائي والسيناريست والمترجم البحريني أمين صالح. كان ذلك ذات اغتراب طويل. شدَّتني بتحطيم التجربة لصنمية القوالب والوصفات الجاهزة والنمط. تحطيم لكل الأشكال والمضامين المستهلكة، والخروج عليها، بما يشبه الأخذ بها إلى مساحات محفوفة بالصدام وعدم الألفة مع التجربة. شدّني تحطيم اللغة التي عُرفت بها القصة القصيرة، على الأقل في منطقة الخليج العربي. كان الوقوف على تجربته من خلال إصداراته الأولى في سبعينات القرن الماضي، وتحديداً «هنا الوردة... هنا نرقص» التي صدرت في العام 1973، ومن بعدها «الفراشات» في العام 1977، لتأتي روايته الأولى «أغنية ألِف صاد الأولى» التي صدرت في العام 1982، على رغم كتابتها في العام 1975، حاملة تجربة ثرية ومغايرة، ذات نفس شعري يكاد لا ينقطع، امتداداً للأعمال القصصية الأولى التي وسمت تجربته. وهنا لابد أن تقف على: «الصيد الملكي»، (1982)، «الطرائد»، (1983)، «ندماء المرفأ... ندماء الريح»، (1987)، «العناصر»، (1989)، وغيرها.
هل قلت ذات كتابة/ مراجعة: إنه شاعر القصة بامتياز؟ الأمر يتعلَّق بذلك الاندغام الذي يأتي عفوياً وغير مصطنع، أو يُساق عنوة ليكون هو الضابط لإيقاع النص. في انتقالاته العفوية بين الشعر الذي يأخذ السرْد إلى مساحات غير مألوفة. الذات من حيث هي العالم، وكذلك العالم من حيث هو الذات. الذات الجمعية. السيرة الذاتية نفسها تقول العالم. والعالم يقول الذوات. ولن يتأتَّى ذلك ما لم يكن توظيف عناصر الحلم والمخيلة والذاكرة، كما قال ذات لقاء، هو الضابط لتلك الممارسة النبيلة: الكتابة.
لا يُطلق الحكْم جزافاً: إنه شاعر القصة بامتياز. حكم مثل ذاك ينطلق من إشهار لغة مكتنزة بالشعر، حتى وهي مشغولة بالسرد. وبالسرْد أيضاً حتى وهي متاخمة للشعر. هل نحتاج إلى تذكُّر «موت طفيف»؟
في «موت طفيف»، نحن أمام نص - نصوص - مفتوح، لا يقول لنا بأنه يحوي مجموعة قصص قصيرة جداً، لأننا سنكون مشدودين للشعر، لكننا لن نعدم حضور القصة القصيرة جداً في ثنايا النصوص. ذلك المزْج، وتلك اللعبة الصعبة والمُفرحة في الوقت نفسه، لا تتأتَّى إلا لمن ذهبوا إلى المغامرة في الكتابة بروح واثقة وقلقة في الوقت نفسه. واثقة بقدرتهم على «إيقاظ المخلوقات النائمة»، وإعادة الاعتبار إلى أرواحها المُترعة بالعذاب. وقلقة لأن الطريق... كل الطريق ستكون معبَّدة بالألغام في أكثر من هيئة، وفي أكثر من معنى. وذلك لا يعني أن يمسس كنوز الثقة سوء.
نقرأ: «طيور سوداء تنقر الثلج... أطفال يتراشقون بكُرَات الثلج... وفي الغرفة المُطلَّة على الساحة... جثة الخادمة الصغيرة تتدلَّى من السقف»!
ولنقف على «عاد بعد غياب... جلس على العتبَة وذرَف دمعتين... لأن أحداً لم يعرفه»!
ليست المسألة في القدرة على تحطيم الأشكال. المسألة في البدائل لها، ولن تكون تلك البدائل ذات مغزى ما لم تملك القدرة على توليد مضامين لا تترك للشكل رؤية ولو بسعة نصف حدقة. أن تعيد الاعتبار لتلك الأشكال التعبيرية والإبداعية، بقدرتها على أن تقولك كذات، وتقول العالم ضمن ما يُظنُّ أنه شكل، ولكنه مليء بقيمة معناه، ولعبة المضامين فيه، واللغة التي تُعيد الاعتبار إلى كل ما سبق. والكلام عن «موت طفيف»، سألته ذات لقاء أجريته معه ونُشر في «الوسط»، بتاريخ 3 سبتمبر/ أيلول 2009: في «موت طفيف» كأنك تكتب الشعر من خلال السرد. ثمة سرد من الشعر إذا صح التعبير... بماذا تردُّ؟ قال: «لا شك أنك لاحظت بأنني في كتاباتي، منذ بداياتي تقريباً، لم أكن أميل إلى السرد التقليدي، الكرونولوجي، حيث الاهتمام بالموضوع والمحتوى على حساب الشكل والنواحي الجمالية، وحيث اللغة موظفة لتوصيل معلومة وليس كطاقة خلاقة. كنت أهتم بالسرد الشعري، أو السرد الذي يكتسب جماليته وحيويته وجدّته من اعتماده على الاختزال والتكثيف، على توظيف عناصر الحلم والمخيلة والذاكرة».
بالعودة إلى إصدارات صالح الأولى نقرأ في «ندماء المرفأ... ندماء الريح»: « في الهزيع الأخير، نام كما ينام الغريب مانحاً راحتيه لدغدغات امرأة مجنَّحة هبطت من السقف مرشوشة بالكافور تغلف روحه بأساور من ريش، لحجلان انبجست من المرأة وأحاطت به تغمس مناقيرها لأسماك عبرت كمائن الإسمنت وأتت تمجد الغفوة، لفلاحين من أصقاع بعيدة جاءوا ليحرثوا ساقه ويحصدوا البشاشة، لأفيال بلا عاج تدفع خراطيمها عميقاً في صدره بحثاً عن نواة جنونه، لثكلى يجرحن نومه برنين المراثي... تاركاً جياده في الخارج تشعل المدينة بيتاً بيتاً».
يتبدَّى لنا أكثر من فضاء في العمل. السرد وهو في حضرة الشعر، ليطلع لنا الشعر في حضرة السرد. ولكلٍ مدعاته الأكيدة. وفي اللقاء نفسه سألته: «تتاخم الشعرية. بل أنت في اللبّ منها في مشروعك القصصي. هل استطاع نصك القصصي وحتى الروائي أن يحتفظ بشروط بنائه... هندسته بهكذا تداخل والتحام؟
أجاب «قلت في موضع ما، إن الشعر جوهر كل كتابة، كل فن (...) الشعر يوسّع تخومه، وراء حدود الاتصال اللفظي، لمعانقة أشكال أخرى من التعبير الفني... بالتالي لا يمكن لشكل ما، أو نوع ما (القصيدة مثلاً) أن يحتكر ما لا يمكن تحديده وتأطيره، وما لا يمكن أسره... أعني الشعر».
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 5019 - الجمعة 03 يونيو 2016م الموافق 27 شعبان 1437هـ