العدد 5016 - الثلثاء 31 مايو 2016م الموافق 24 شعبان 1437هـ

أمنية

منزوٍ يتخذ من زاوية الفصل مقعدا له، يجول في عالمه الخاص ، دائم الشرود والتفكير، يرقبك بحذر شديد حال الدنو منه، ليس خوفاً بل تعففاً، زاهد لا يريد الظهور بمثل أقرانه، ملابسه رثة وشعر رأسه كعش عصافير غير مرتب، هادئ هدوءاً سلبياً تخاله مهملاً أو متقاعساً في دراسته، يجيبك بالمقدار الذي يسمح لنفسه بالحديث مع الآخرين، ذو الـ 12 ربيعاً، إذا ما سبرت أغواره تجده عصيّاً على الفهم، عصبيّاً حاد المزاج.

من دون أقرانه جلس جامدا في حصة التعبير؛ المطلوب فيها كتابة موضوع يتناول «احترام الوالدين وواجبات الابن اتجاههما»، أراقب جميع الطلاب وهم منهمكون يُعبّرون ما يدور في خلجاتهم نحو هذين العملاقين، السعادة تغمر الجميع وهم ينمقون أرقى تعبيراتهم نحو آبائهم وأمهاتهم، البعض تأتيه النشوة فتتراقص كلماته على كل سطور الورق لفرط سعادته، ومن هو مغمور بما يكتبه اتجاه والدَيه.

دنوت منه طالباً منه أن يُعبّرَ أو يكتب شيئا حتى لا يخسر درجة التعبير، رمقني بعينيه ثم أنزل رأسه ورمق دفاتره، لم ينبس ببنت شفة، ثم أعاد النظر مرة أخرى إليّ، بادرته بالكتابة مرة أخرى، لكنه رفض الكتابة هازاً رأسه يمنة ويسرة، سألته بعدها: ألا يوجد لديك والدان حتى تعجز عن الكتابة في احترامها؟ أم أنك تستكثر التعبير عن احترامك لهما؟ ألا ترى جميع الطلبة دونك ماذا يفعلون؟

مرة أخرى أومأ برأسه رافضاً ذلك حتى كادت عيناه أن تغرورق بالدموع، لكنه أبى وكابر على إخراجها؛ شجعته مبدياً حبي له، وأنه أقوى من أن يترك الورق خالياً من دون كتابة، وبعد إصرار شديد قَبِل الكتابة.

دفتره جِدُّ بالٍ وقلمه مكسور لم يبق منه إلا نصفه، لكنه اختصر كل ما يعانيه في سطر واحد، فكان تعبيره «الوالد هو الأساس، فبدونه لا يوجد أسرة ولا أولاد». قرأتها عدة مرات لأصل إلى خفايا مشاعره، وبصعوبة فائقة وصلت إلى نتيجة أنه يعيش مشكلة عائلية تعصف به فتجعله مدبراً غير مقبل على الدراسة.

أمرته أن يبقى في الفصل حال خروج الطلبة للفسحة، لأستخبر خفايا سره، علّني أجد حلاً لما يعانيه، لكنه وبصعوبة بالغة أفصح عن ذلك.

أريد أن يكون لي والد كما للآخرين، أن أرى ظله وهو يحنو عليّ، أريده أن يمسح على رأسي فأشعر بالأمان والطمأنينة، أريد وأريد ...

سألته. أين أبوك؟ فيجيب. بعيد...

متوفى؟ لا. إذاً مسافر؟ لا.

فهمت ما يريد أن يوصله؛ أبوه منفصل عن أمه وعنه، فهو يشعر بالغربة لهذا الفراق، فيصعب عليه أن يكتب تعبيراً يمثل له صراعاً بين الانفعالات والوجدانيات، فيشعر بأن نصفه الآخر مفقود، فالصورة غير مكتملة لديه بل أصابها الشرخ فبدت مظلمة غير واضحة.

أعيد تشجيعه مرة أخرى بأن يقوى على كل تلك المصاعب وأن يكتب ما يجول في خاطرة. قَبِلَ؛ وعلى مضض كتب: «لا أريد ملابس جديدة، ولا حذاء جميلاً، ولا حقيبة فارهة، ولا أي شيء، أريد أن تمسك أمي بيميني وأبي بشمالي، وأنا أتوسطهما لتصل مشاعر الدفء إلى قلبي وجسدي، ثم أعيدها مرة أخرى لتربط بين قلبيهما، أريد أن أتوسطهما وأنا فرح مسرور يظللانني بحبهما وحنوّهما، أريد أن أكون كما الآخرين.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:58 م

      الاسلوب مشوق والصور مؤتلفه مع معاناة الطفل توصل رسالة هادفة الأب والأم اثمن شيء علاء معلم لفة عربية

    • زائر 2 | 12:18 ص

      امنيتي ... أن أمسك يد أمي طيلة حياتي ..
      كم أنت رائع يا أستاذ أحمد ...
      طالبك ع .ع. ع

    • زائر 1 | 11:16 م

      جميلة جدا جدا ومعبرة .. الله يكون بعون كل زواج فاشل يكون ضحيته الأطفال .. أمنيتي ان لاتتسرع الزوجة بالانجاب اذا كانت على يقين بان زواجها سيبوء بالفشل .. هدانا الله وثبتنا على الصراط المستقيم

اقرأ ايضاً