ها نحن نستقبل شهر رمضان المعظّم، ولسان حالنا يدعو للجميع بالسلام والأمن والأمان ونحن على أبواب هذا الشهر الفضيل. وها هي الأيام والأشهر تمضي والحال في سورية يُراوِح مكانه؛ فلا النيران خَبَت ولا المفاوضات أرست بالشعب على شاطئ الأمان. بل ها هم مشرّدون على حدود البلدان في أوروبا وآسيا يتنقلون من ملجأ إلى آخر. وها هي «الخمسيّة السوداء» تكرّ الأيام والأحداث وراءها وتكاد تذكّرنا بـ «العشريّة السوداء» في الجزائر. فكيف نستفيد من التجربة الجزائرية في الحالة السوريّة؟
ليس المجالُ في هذا المقال استعادةَ آلام تسعينات القرن الماضي في الجزائر حين عاش الشعب الجزائري سنوات من نزيف الدم حتى عُرفت كناية بالعشرية السوداء، وليس المجال هنا للتذكير بالمذابح والاغتيالات والمقابر الجماعية وزهاء نصف المليون ما بين قتيل وشهيد وضحايا حرب ومجرمين، ومفقودين ومغتصبات، وثكلى وأرامل، ويتامى... وإن تذكّرناها فمن باب التحذير من تكرار المشهد الجزائري الأليم في سورية.
ولئن اختلفت أسباب اندلاع الحرب بين البلدين فإن النتائج واحدة: دمار في البنية التحتية، استنزاف للقدرات، تشتت في العائلات، هجرات جماعية نحو أوروبا ودول الجوار، تآمر دولي من أجل إضعاف الدولة والمعارضة لاستمرار التقاتل إلى ما لا نهاية.
بدأ الصراع في الجزائر أواخر العام 1991 بداية العام 1992، وعرف منعطفات خطيرة جعلت البلاد والعباد على كفّ عفريت. ومع استمرار سقوط الضحايا من جانب الجيش وعامة الشعب من جهة، ومن جانب المعارضة والجماعات المتطرفة المسلحة بمختلف مسمّياتها من جهة أخرى، صار الواحد من أفراد الشعب إذا خرج من بيته إلى العمل صباحاً يودّع أولاده وزوجته فلا أحد يضمن عودته. ولعلّ ارتفاع عدد الضحايا غير المسبوق من الجانبين في الجزائر العام 1997، وخاصّة بعد انهيار المحادثات الأولى وإجراء انتخابات فاز بها آنذاك مرشّح الجيش الجنرال الأمين زروال، أحد الأسباب التي أجبرت الجميع على وقف إطلاق النار. سنوات من الدمار والدماء البريئة المُراقة جعلت السلطة والمعارضة تعي الدرس بأنّ الصراعات الداخلية غير منتهية وخسائرها مستمرة لأجيال فكانت مبادرات داخليّة لوضع حدّ للنزيف.
عرفت المفاوضات جولة أولى في بداية العام 1994 حيث تمّ اختيار الأمين زروال رئيساً للدولة لتسيير شئون البلاد في مرحلة انتقاليّة تمهيداً لانتخابات جديدة. وانتهج زروال مبدأ التفاوض والحوار مع قياديي المعارضة وأطلق سراح الكثير من المسجونين، وهو ما أحدث انقساماً بين مواقف المعارضة اليسارية واليمينية في التعامل مع «الإسلام السياسي». في هذه الأثناء برزت الجماعة الإسلامية المسلحة والتي أعلنت تطبيقها لقوانين الخلافة الإسلامية على المناطق التي تسيطر عليها، فازداد الأمر بلاء.
وفي نهاية العام 1994 أعلن الأمين زروال فشل المفاوضات مع المعارضة الإسلامية ممثلة في الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 1995 فاز الأمين زروال بالرئاسة في انتخابات وصفها مراقبون عرب ودوليون بأنها نزيهة. وأخذ يدفع في اتجاه كتابة دستور تمّ تمريره للاستفتاء الشعبي العام 1996 وفاز الحزب الذي أسسه زروال بغالبية مقاعد البرلمان العام 1997، غير أن المسار ما لبث أن ارتد إلى منهج العنف، فكانت مجازر كثيرة استهدفت المدنيين والسياسيين وكانت الجماعة الإسلامية المسلحة متورطة في ذلك وكان التكفير، تكفير الدولة وتكفير الشعب، مبررها للقتل.
في العام 1999 فاجأ الأمين زروال العالم بتقديم استقالته، وانتظمت انتخابات جديدة فاز بها الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة. وشرع من جديد في الحوار مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ حتى حصل منها على موافقة لنزع السلاح وأصدر من جهته العفو على الكثير من معتقليها. وتقلص نشاط الجماعة الإسلامية المسلحة بعد مقتل زعيمها عنتر زوابري.
لقد طرح الرئيس الجزائري «ميثاق السلم والمصالحة الوطنية» محاولاً إنهاء حرب العشرية السوداء، وأُجرِيَ استفتاء عام على الميثاق العام 2005 وحصل على نسبة موافقة شعبية عالية بلغت 97 في المئة ثم صار قانوناً في فبراير/ شباط 2006. كما جرى إطلاق سراح قيادي الجبهة الإسلامية للإنقاذ وعدد كبير من معتقليها. وعلى رغم ما لقيه الميثاق من نقد من أوساط حقوقية داخلية وخارجية فإنّه اعْتُبِر خطوة إيجابية أرست المصالحة بين أبناء الوطن، وأنقذت الجزائر من استمرار حمام الدم وموجة العنف والقتال.
إن الاستفادة من هذه التجربة، على رغم مرارتها، ممكنة جداً لا فقط لكثرة وجوه التشابه بين الحالة السورية في السنوات الخمس الماضية، والحالة الجزائرية في تسعينات القرن الماضي، وإنما أيضاً لما تتوفر عليه من حلول عاقلة ورصينة قدّم فيها الجزائريون المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية والفردية، واستطاعت الجزائر أن تتعافى تدريجياً من مخلفات تلك العشرية، حيث استعادت عافيتها الاقتصادية، واستتب الأمن بنسبة كبيرة على رغم بقاء نشاط بعض عناصر الجماعة الإسلامية المسلحة التي انضوت بعد ذلك في صلب تنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب العربي.
لقد كان لافتاً عدم تحرك الشارع الجزائري في شكل مظاهرات واحتجاجات مطلع العام 2011 على غرار تونس وليبيا وبدرجة أقل المغرب وموريتانيا، وخصوصاً أن الجزائر لا تفتقد لشروط اندلاع مثل هذه الاحتجاجات. وقد عزا المحللون ذلك إلى تخوّف الجزائريين من شبح عودة أيام العشرية السوداء، فذاكرتهم لاتزال تترنّح تحت وطأة المذابح والاغتيالات... لقد استفاد الجزائريون من تاريخهم، أفلا يعتبر السوريون بتجربة العشرية السوداء الجزائرية؟
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 5015 - الإثنين 30 مايو 2016م الموافق 23 شعبان 1437هـ
الأستاذ دائما يعود بنا إلى التاريخ علّنا نعتبر، ولعلّ قول قولد مائيير رئيسة الوزراء الاسرائلية السابقة (هم شعب لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون وإذا فهموا لا يعملون)، تجد طريقها أخيرا إلى الجحيم.
شكرا أستاذ سليم
وقد عزا المحللون ذلك إلى تخوّف الجزائريين من شبح عودة أيام العشرية السوداء، فذاكرتهم لاتزال تترنّح تحت وطأة المذابح والاغتيالات... لقد استفاد الجزائريون من تاريخهم، أفلا يعتبر السوريون بتجربة العشرية السوداء