تُقدِّم القاصة والناشطة الحقوقية السعودية فوزية محمد العيوني، في مجموعتها القصصية «موجز النشرة»، الصادرة في العام 2008، عالماً من الأحلام والكوابيس والخيبات. عالماً من بشر يحاولون... ينهضون ويقعون. نماذج بشرية تتشظَّى في ظل حياة غير مكتملة. لا حياة مكتملة أساساً، ذلك صحيح، لكن أن تكون تلك الحياة غارقة في النقصان، تصبح مختبراً للسادية بشكل أو آخر. تقدِّم المجموعة عالماً من الفقد أيضاً. ليس بالضرورة الفقدان الذي يحضر مخيلتنا ساعة يأتي ذكر الكلمة. إنه الفقدان في ظل ما نظنه حاضراً ومتاحاً. الفقدان بتلك العزلة التي تراكمها الخيبات، من دون أن يتمخَّض عن تلك العزلة ما يقوم بالجانب التعويضي.
إنها قصص النماذج البشرية المتشظِّية... اكتظاظها بالكوميديا السوداء والحياة التي لن تكتمل... الحياة المليئة بالخيبات. هي قصص الحالات المتوارية خلف أستار من التعتيم والهامش.
حوت المجموعة القصص الآتية: أبجدية حياة، هذه الصفحة، خوف، الشرنقة، الأشياء تتمرد، مواء، الأرنبة، يوم عادي، إلفان، عشرون ثانية، موجز النشرة، حار... ولكن، أسرار غدير، جنسان، صاحب الرأس، وحشة، الزهور، المحزومة، وِحْدة، الفراشة، دائماً هنالك نوافذ أُخر، ربكة بوح، انقلاب، الغلالة، ولغة الضاد. نقرأ في قصة «موجز النشرة»، وهو عنوان المجموعة: «في غرفة باردة، وحين هطل الليل رذاذاً... رذاذاً... أطلَّ علينا مذيع النشرة معلناً عن صورة طفلة مفقودة بضفيرتين وعينين واسعتين، وقلب بحرقة الشمس، يخبِّئه ثوب وردي كالأحلام، بأعوام سبعة، ومنذ أعوام سبعة فُقدت، فعلى من يجدها أن يعيدها إلى نفسها، وله مقابل ذلك كل الخلود. حللْت أنا ضفيرتي الوحيدة، ورتقتْ هي لها لساناً، وبقفزة واحدة نحو النوافذ العالية، اختطفنا عنفواناً كان مدلَّى بالأفق... ارتديناه، وبكفَّين ملتحمين، انتزعنا الطفلة من الشاشة وعدنا ذواتنا... نجوْنا!».
لا ترتيب للفقْد
لا تأخذ عملية الفقد ترتيبها الذي نعرف. يهبط هكذا، لأنه مقيم أساساً. فقد قدرة الإنسان أن يكون منسجماً مع نفسه. فقد القدرة على تدبير الحياة. فقد سنوات تتسلَّل دونما مقدمات، ودونما أثر يدل على أنها كانت هنا. فقد قدرة الإنسان نفسه على الخلود. كل شيء فيه برسْم الاستهلاك. روحه القلقة على الدوام تحيل ذلك الجسد الذي يبدو صلباً وفظاً إلى هيكل تسكنه الأشباح والوهن، وقابلية الانهيار.
هو ذاته الانتزاع الذي يحدث لكثيرين منا في محاولاتهم المستمرة من أجل النجاة بما تبقى من إنسانيتهم وحقهم الناقص في الحياة. حتى وإن بدت بعض الشخصيات متشظية... منكسرة... تلوذ بصمتها، وتركن إلى التواري، لكنها بالتقاطات العيوني على الضد من ذلك. يكفي أنها في اللب من محاولات الخروج على الاملاءات، والقدَر الذي يتم إعداده بجهد بشري. أعني هنا ما يُراد له أن يكون قدراً وهو ليس كذلك. الانعتاق من تلك المنظومة التي لا تكلُّ من استمراء جعل الإنسان موضوعاً للسخرة، وليس هو وحده، بل كل ما يشير إلى أنه في الموقع الخطأ من هذا العالم، مادام لا يرى فيما يحدث له، وما يحدث لآخرين من حوله، تجاوزاً، وانتهاكاً، هو ضمن الحد الطبيعي والمألوف!
الأمكنة ذاتها في هذه القصة وغيرها من قصص المجموعة لا ملامح لها. مُضبَّبة، تماماً كما هي الأرواح التي تسكنها. الأرواح الهائمة، والأجساد المهزومة. الأزمنة هي الأخرى تبدو في تلاشٍ وانقباض أحياناً. تلاشٍ من حيث حالات ونماذج العدمية الداخلة فيها... في وعائها. وفي انقباض، في عدم قدرتها على أن تنتصر على القدَر والخيبات التي تحتاج إلى زمن كي تستوي وتهيمن وتتحكَّم في المصائر.
هواجس... مركز العالم
ثمة نماذج تظل استثناء في العوالم التي تتحرك فيها معظم قصص المجموعة. وهي إذ يتم تقديمها تظل في حدود وسْم من التورية. في حدود التماس مع عمق الظواهر تلك، ويتم التعامل معها بشكل برَّاني وسطحي.
25 قصة، تفاوتت بين القصة القصيرة جداً، والقصة القصيرة التي نألف، لا تبتعد في قليل أو كثير عن الخط الذي بدأت به: محاولة الاقتراب من هواجس وحالات النفس البشرية. الإنسان بما هو مركز هذا العالم، ويراد له أن يكون في الهامش.
قصة «النشرة الجوية» التي حملت عنوان المجموعة، تظل أكثر القصص المليئة بعوالم وأجواء غرائبية، ساعد على ضبط إيقاع تلك العوالم، اللغة في مستوياتها الشفافة العالية، ومستويات حدِّتها في مقامات أخرى. عالم الاستلاب والخطف؛ ليس بالضرورة بمعناه التنظيمي في شكل عصابات. يأتي غالباً في شكل قيَم وعادات وتقاليد تختطف مجتمعاً بأسْره وأمة. في هيئة فقدان فردي واختطاف ولكن مآلاته تطول الصمت والرضا الجمعي.
باللغة التي تكتب بها العيوني، وبالاقتراب من المعالجات والتناول، وبالمناطق التي تملك جرأة الدنوِّ منها، نحن إزاء محاربة حقيقية في سبيل وضع حد ونهايات لهذا الاستهتار بقيمة ومعنى الجنس البشري، والأهم من الجنس البشري، ذلك الإهدار لقيمته، والإمعان في إهانته، والتوغل في تحقيره، والتغوُّل في الحط من قيمته.
عدد من القصص القصيرة جداً في المجموعة، تزامنت مع تكثيف على أكثر من مستوى طال اللغة والشخصيات، وتشظِّي الزمن فيها والمكان، العقدة وفك العقدة، حتى تلك التي تبدو من دون فك لعقدتها، تتركها للقارئ كي يكون في تفاصيلها، ويرتضي ما شاء لها من نهايات مفتوحة على ما بدأت به ومنه!
فتح الشرْفة
من بين تلك القصص «هذه الصفحة»: «مع كل الإشارات الصفراء والحمراء في دروبي، لا أستبعد أن أفتح شرفة في بيتي ذات صباح، فتفاجئني لوحة خضراء، لتعلن: (هذه الصفحة غير مسموح بها، فضلاً عبِّئ النموذج إن كنت ترى ضرورة فتح هذه الشرفة)». علينا أن نعرف هنا الدور الحقوقي الذي تلعبه القاصة، ليتسق الخط الإبداعي في كثير من قصص المجموعة مع الخط الحقوقي الذي تبنَّته وتناضل في سبيله العيوني، والقصة المشار إليها ليست على مبعدة من تلك المناخات التي يتم فيها تضييق الخناق على خيارات الإنسان، حتى وهو في حيِّزه الخاص، أو الذي يبدو خاصاً، ولكنه بخبرة الممارسات المضادة هو على الضد من ذلك، بدخوله ضمن الفضاء العام الذي تتم مصادرته والتضييق عليه.
الإشارة إلى أن العمل الحقوقي يتيح أدوات ثرية وإضافية في ولوج عوالم قد تكون مستترة عن كثيرين. عوالم لا يمكن القبض عليها بكل تفاصيلها الحادة والمؤذية والجارحة ما لم يكن الإنسان على متاخمة لها، وفي صلب الأدوار التي تتطلَّبه، والقضايا التي تكون خطاً فاصلاً بين أن ترى الفظاعات والانتهاكات وتصمت، وبين أن يكون لك أثر ومقدرة على إحداث تغيير ولو كان ضئيلاً، في بيئات يصبح مثل ذلك التغيير فتحاً عظيماً، ويمكنه أن يتراكم مع مرور الوقت.
حرية فتْح الشرْفة، هو ذلك الواقع المُغيَّب لحق غائب. أن تطل على الحياة وتقيم في قيمتها، ولن تُتاح للحياة أية قيمة ما لم تكن أنت مصدرها. لا تبعد ثيمات القصة عن الكثير من قيم الحياة وثوابتها، وحتى المتحول فيها.
الاتصال غير الشرعي!
في قصة «جنسان»، يصل التهكُم ذروته... كوميديا سوداء، الأضداد تشكِّل لوحة سريالية تكشف عن جمالياتها، على رغم المرارة المركَّزة فيها. على رغم ذلك التباين البشري على مستوى الوعي. هل هو وعي حقاً ذلك الذي ينحرف بقيمة الإنسان؟ هل يعود وعياً، أم هو في الصميم من الغياب والغيبوبة؟
تضعنا العيوني فيما يشبه الانفصال التام عن القيمة. ذلك الالتحام مع المعطى التقني والمعرفي، والعقلية التي لم تبرح كهوفها وأماكنها الرَّطِبة. ذلك الإمعان في تسوُّل ظلام إضافي يكبس على المخيلة البشرية، فيحيلها إلى أكوام من جثث وموات.
«وقف الرجل الملتحي أمامي ساهماً، وهو يحاول أن يُعرِّف الطابعة بجهاز الكمبيوتر الجديد، في المؤسسة التعليمية التي أعمل بها... بدا مستاء من وجودي، رغم اتشاحي بالسواد من رأسي حتى أدق ظفر في قدمي، وخالجني نفس شعور الاستياء، وإنْ بشكل أكبر... تمنيت لو أنه سأل سؤالاً أبعد عمقاً، لكني سمعته يهمهم: كيف أصِل طابعة بجهاز؟ إنه اتصال غير شرعي»!
القصة تحمل الاغتراب الذي يغرسه الإنسان في نفسه. يريد أن يتواصل مع أشباهه فحسب، من دون أن يتردد في استغلال ما عجز هو عن إنجازه. ذلك الاغتراب هو الذي يجعل من بشر اليوم خارج سياق الضجيج البشري، وخارج سياق حركة العالم، وفي معزل عن الحركة الموَّارة فيه. وحتى الغرائبية في الفن، والأعمال الإبداعية تبدو محاولة متواضعة للاقتراب من حقيقة ما يدور ويحدث في هذا العالم.
الاهتمام بالطبقات المُهمَّشة
في قصة «الزهور» نقرأ: «أنا الجارية الأسيرة، أقبع في المقعد الأمامي بجانبه، دموعي تتشرَّبها الطبقة الثالثة من غطاء وجهي فلا تبين... أكتم شهيقي، ومع ذلك يؤلمني مرأى الشاب البنغالي الفقير، الذي يضحي بحياته أمام كل إشارة صفراء في شوارع مزدحمة... يتجاوز نافذة سيارتنا برشاقة... يحمل زهوراً ذبلت، قبل أن يهفو إليها أمل امرأة، فيخذلها الحبيب... وددت أن أقول له... ارحل بها لأرض فيها شارع لفضاء فسيح، وعشَّاق».
الاهتمام بالطبقات المهمَّشة هو وقوف على المنظومات التي أوجدت ذلك التهميش، ووقوف على مصادرة الأحلام أو نفيها إن توافرت إمكانات لذلك. لا مبالغة في الأمر، المبالغة فيما يحدث من حولنا. تذهب العيوني في رصدها لتلك الطبقات، نحو رصد التهميش الذي يكبر أو يصغر داخل كل منا، وسط مجتمعات لديها إمكانات خرافية من اللامبالاة، وفوق ذلك إمكانات في تعميق ذلك التهميش وجعله سنة من سنن الحياة!
نموذج الشاب البنغالي يتكرر في كثير من نماذج أبناء الأرض بالعوز والظروف، وربما هامشية أن يكون المرء متميزاً لدى بعضهم. سرقة الفُرص التي باتت شأننا له فلاتر ومجسات. الإحالة إلى البنغالي لا تعني غيابه كنموذج لدى إنسان المكان. تلك أمور يُراد لها أن تظل مسكوتاً عنها. يُراد لها أن تكون خارج الكادر. الشاب البنغالي الذي يجوب الشوارع الخطرة كي يبيع الورد، أيقن أن زهرة حياته في ذبول بالموقف الذي هو فيه، وفي البلاد التي هو فيه بعيداً آلاف الأميال عن وطنه الأم، فقط كي يتذوق حلاوة الحياة بمزيد من الآلام والعناء والشقاء المركَّز والمُمِضِّ.
لم يعد الشارع فسيحاً. لا فضاء يمكن أن يبدي رحمة أمام تلك الفئات المهمشة والمستلبة. لا عشاق تزدحم بهم تلك الورطة النبيلة وسط أوديسة الحياة. العشاق يحتاجون إلى فضاء وشوارع لا تنتهي والأهم من كل ذلك: ألاَّ تذبل فيهم وردة الحياة والمحاولة.
بقيت إشارة إلى أن الشاعر والروائي السعودي أحمد أبودهمان، كتب تغريدة في حسابه على موقع «تويتر»، بتاريخ 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، قال فيها: «يوماً كدت أموت، أنقذتني العزيزة فوزية العيوني زوجة الشاعر علي الدميني. يومها عرفت أن لا فرق بين الحب والمحبة». لا نعرف شيئاً عن تفاصيل التغريدة، وما مناسبتها، لكن خلف تغريدة كتلك من دون شك، فعل خلَّاق ومُبهر. فعل لا يمكن لشخص مثل «أبودهمان»، أن يكون عابراً بالنسبة له، فأن يكتب، فذلك يعني أنها ظلَّت محط اهتمام ومحبة وإعجاب وإكبار للدور الحقوقي والاجتماعي الذي تقوم به، وهي التي لم تتردَّد يوماً - في أحد اللقاءات الصحافية - في الإعراب عن انحيازها للدور الحقوقي، وتفضِّل أن تمارس ذلك الدور أكثر من كونها كاتبة قصة، وإن أتيحت إمكانية الجمع بينهما فذلك خير كثير.