«أزرقان... أزرق الرسم وأزرق الحياة» (Two Blues…Blue in Art and Blue in Life) للفوتوغرافية طفول حدَّاد، الذي صدر عن «المطبعة الشرقية» العام 2016، جاء معيَّة نصوص الشاعر والأديب البحريني قاسم حدَّاد، التي كتبها ضمن «يا أيها الفحم يا سيدي... رسائل فنسنت جوخ»، وتولَّى ترجمتها المسرحي والمترجم القدير محمد الخزاعي، اشتغال على الأزرق الطاغي لدى فنسنت جوخ... كأنه لعبة العبث باللون أحياناً من خلال اللقطة... النصوص زرقاء أيضاً.
يقدِّم المشروع مزاوجة هذه المرة بين تعلُّق وشغف جوخ باللون الأزرق، واللقطة التي طغى عليها اللون نفسه، في حرفية عالية. يحضر ما يشبه الرمادي في الصور/ الألوان، ولا أقول الرمادي، ابتغاء سدِّ ذريعة الوصول إلى النهايات. الأزرق لا يعرف النهايات، فيما الرمادي في اللب من تلك النهايات. المقدمة التي كتبتها طفول أشارت إلى اقترابها من حياته قبل رسوماته «فصرت أعرف أن الإنسان داخل فنسنت هو سحر الفن في لوحاته، فكل لوحة تحمل جزءاً صغيراً من قلبه الأزرق».
ثمة خريطة تضعنا أمامها طفول كي لا نتوه في غابات الأزرق، خريطة هي أشبه بتعريف بمن أسمتهم المتحاورين في الفن وفي الحياة: الرسم والحياة، الكاتب والرسَّام، قاسم وفنسنت، الكتابة واللوحة، فنسنت وثيو، الظل والضوء، الفحم وزهرة الشمس، الليل والنهار، الشمس والنجوم، المنْجم والحقل، الحب والحزن، الحبر واللون، الإبداع والجنون، اليأس والحلم.
ثمة وجوه تتداخل في بعض أعمال الكتاب، في ما يشبه اللعب مع الحياة... الطبيعة في برودها حيناً، وفي حيويتها حيناً آخر، بإطلالة وجوه عليها، لتكون على مبعدة من ذلك الجمود.
مزاوجة «الصورة»، باعتبارها نصاً، مع بعض نصوص قاسم حدَّاد، حققت لنا توليفة ذكية ولمَّاحة على مستويي توظيف امتداد الأزرق لجوخ، أو العكس، في الطبيعة التي تلتقطها هذه المرة الكاميرا... العين... الحدقة بحساسيتها، والاستدعاء الذي يحدث للون نفسه في لوحات فنسنت، ذلك الذي ظل ملتصقاً بالطبيعة كمادة خام للرؤية، وإدخال عنصر الرؤية و «التخريب» المدهش الذي عمد إليه الفنان الهولندي؛ أو لنسمِّهِ العبث. نصوص حداد كانت دقيقة في تلك المزاوجة بالأزرق في نصه، تجلياً للأزرق في أعمال فنسنت. «يا أزرق يا صديقي. وضعتك في أحلامي ومنحت قلبي نعمتك. من سمَّاك أزرق في سمائي، ومن يصدُّ ليلي سواك».
لا تبدو الطبيعة ساكنة أيضاً في كثير من الأعمال، بذلك الاكتظاظ الذي له نسقه وتراتبيته، والأهم، جمالياته الأخَّاذة. الميْل إلى الداكن في بعض منها، مع طغيان الضوء والأزرق. العبث بهيئة الطبيعة في الصورة. العبث الجميل، في استلهام للعبث الذي مارسه فنسنت جوخ على الطبيعة ساعة تكون في حضرته، وتخضع لرؤيته التي ستتمخض عنها اللوحة في العراء المفتوح، والمدى النهائي، لتكتسب مدى أبعد حتى وهي محكومة بالإطار والحواف. يبدو الفحم هو الآخر حاضراً في بعض الأعمال، وإن كانت السيادة للأزرق والضوء، «فالظلام لون أيضاً»، ذلك ما يكتبه حدَّاد «عندما هناك، في زنزانة الأرض، بالمناجم، ثمة لون واحد هو الظلام. ما من لون آخر هناك. شحوب مثل نحيب يصدر من الأجساد المُنهكة وهي تزحف في الجحور يصعب تمييزها عن السحالي. الظلام هو اللون الوحيد الذي كنت أخرج مكنوزاً به، فأسرع نحو غرفتي محاولاً رسم الظلام. الظلام كان هناك لكن ليس كل الظلام لون».
حدث ذلك في عدد من الأعمال. حدث أن الظلام هناك، حتى وهو في طغيانه كان الضوء يتلصص من اللقطة، فيغمرها بما يكسر ذلك الظلام. يكسر ذلك اللون.
تبدو بعض الأعمال في جانب من غرائبيتها، كاشفة المكنون مما اكتنز به جوخ. ذلك الذي لم يقل الكثير، لأنه كان مشغولاً بإعادة رسم الطبيعة/ الحياة من حوله. الحياة التي لم تكن وفية لعبقريته، ولم تستطع مجاراة شهوة اللون لديه، والمكْر الذي أخذ به كل مأخذ، فاستوى على عالمه/ طبيعته، حتى وهو يضع حداً لحيِّزه من تلك الحياة، بجرأته على الموت، الذي وجد فيه حياة أخرى تليق به.