انعقاد المؤتمر العاشر والاستثنائي لـ«حركة النهضة» التونسية؛ أفسح المجال لإطلاق مناقشات سجالية على مستويات مختلفة ترافقت مع ضجة إعلامية، لاسيما حين طرح زعيم الحركة الشيخ راشد الغنوشي بأن حركته «بصدد التحوّل إلى حزب يتفرّغ للعمل السياسي، ويتخصّص في الإصلاح انطلاقاً من الدولة، ويترك بقية المجالات للمجتمع المدني كي يعالجها ويتعامل معها عبر جمعياته ومنظومة الجمعيات المستقلة عن الأحزاب، بما في ذلك النهضة»، ما يعني التأقلم مع تطورات الظروف التي تتسم بالنزاعات الدموية؛ والنأي عن الإسلام السياسي والتمايز عن جماعة «الإخوان المسلمين»، لم لا ولطالما ميّزت الحركة نفسها عن التنظيم الأم في مصر، وهذا الأمر يقبله ولا يعيبه بعض المنتمين للحركة؛ بل يبرّرونه في سياق اتباع سياسات غير محرجة في ظل الاحتراب الإقليمي وما تتعرّض إليه الجماعة في مصر وخارجها.
الغنوشي دعا إلى «تحييد المساجد عن الخصومات السياسية والتوظيف الحزبي؛ كي تكون مجمعة لا مفرّقة»، وأن حركته تساند الدولة بشكل مطلق في حربها على الدواعش والتكفيريين... و»أن هذا ديدنها منذ تحوّلها من حركة عقدية إلى احتجاجية في مواجهة نظام شمولي دكتاتوري، وحتى غدت حزباً ديمقراطياً بمرجعية وطنية إسلامية ملتزمة بمقتضيات الدستور وروح العصر. فالدولة لا تدار بالآيدلوجيا والشعارات الفضفاضة والمزايدات، بل بالبرامج والحلول الاجتماعية والاقتصادية التي تحقق الأمن والرفاه..».
وأشار إلى أن المواطن ملّ صراعات السياسيين، وهو معنيٌ بالأمن ومقاومة الإرهاب وغلاء المعيشة والنمو الاقتصادي، وبمعاناة محدودي الدخل والفقراء والمهمّشين. ومن هنا دعا النخبة السياسية لوضع «عقد وطني للنهوض بالشباب وعدم تقسيم البلاد والمراهنة على الغنائم السياسية، فيد حركته ممدودة للمصالحة بين الدولة والمواطن، وبين الماضي والحاضر»، وطمأن محازبيه، بأن لا صفقة تعقد تحت الطاولة، و»المصالحة ليست قراراً مسقطاً أو رضوخاً لإكراهات ظرفية، بل تتويج لمسار تاريخي تمايز فيها عملياً السياسي عن المجتمعي والثقافي والدعوي في حركتنا»، وهذا بالضبط ما أكّده قبلها مع صحيفة «لوموند» الفرنسية حين قال: «لا نعرّف أنفسنا بأننا جزءٌ من الإسلام السياسي، إنما حزب سياسي، ديمقراطي ومدني له مرجعية قيم حضارية مسلمة وحداثية.. نحن نتجه نحو حزب يختص فقط في الأنشطة السياسية».
بين التأييد والشكوك
أُعتبر التصريح من جانب بعض المتابعين السياسيين حدثاً مهماً ومفصلياً، وبراغماتية من «النهضة» تمكّنها من تعديل مسارات منهجها في العمل والتوازن في سياق الخلافات الداخلية، فهي تغيّر صورتها أمام العالم باجتراح مفاهيم جديدة، بيد أن ذلك ترافق بشيء من الريبة والشكوك حيث يتنازع الموقف اتجاهان داخل الحركة، أحدهما مع الانفتاح والتحوّل من «العمل الدعوي» إلى «الحزب السياسي» المدني المحافظ على الهوية النهضوية، أو الإبقاء على مرجعية الحركة الإسلامية ومنابعها الفكرية.
ثمة من يعزّز رؤية الاتجاه الأول بأن التغيير يتلاءم وقناعات غالبية التونسيين، إذ يدلّلون على ذلك بنتائج استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة «سيغما» الذي يؤشر بأن 73 في المئة من التونسيين يؤيدون «الفصل بين الدين والسياسة»، كما يعتبر بعض مسئولي الحركة أن التحوّل هو نتيجة منطقية لتجربة «النهضة» في السلطة، ويأتي في سياق العبور من مرحلة الدكتاتوية إلى الديمقراطية، كما يساعد على إزالة التوتر بين القديم غير الممكن إلغاؤه، والجديد الذي أتت به الثورة حسب لطفي زيتون. فيما يذكُر قيادي آخر ووزير سابق بأن «مصطلح الإسلام السياسي غامض وملتبس، ولا أحد يعطي تعريفاً دقيقاً له... لم يعد هناك حاجةٌ للإسلام السياسي الاحتجاجي في مواجهة الدولة، نحن في مرحلة البناء والتأسيس، نحن حزب وطني يعتمد المرجعية الإسلامية، ويتجه إلى تقديم إجابات أساسية على مشاغل واهتمامات التونسيين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية».
أما أستاذ علم الاجتماع الجزائري عروس الزبير، فيرى أنه حدث مهم، والتحوّل ليس مفاجئاً، فالحركة نشأت نخبويةً، وفي مناخ ثقافي يختلف عن المناخ الذي تأسّست فيه حركة الأخوان المصرية... وظروف المنطقة وصعود حركات التطرف يدفع الحركات الإسلامية أكثر نحو التغيير والتأقلم وتجاوز مرحلة الأحزاب الإسلامية اللائكية العلمانية». فيما يدافع الباحث التونسي حمزة المؤدب عن هذا التحوّل قائلاً: «إن عقل النهضة سياسي براغماتي بامتياز، ويمارس السياسة بحساباتها ومناوراتها وتنازلاتها، وبأنّ تطبيع وضعها وإدماجها في النظام السياسي الوليد ارتهن بتقديمها لتنازلات لمسناها في معارك كتابة الدستور (كالتنصيص على الشريعة وقضية المساواة وحرية الضمير.. إلخ». كما أن الوجوه البارزة هي سياسية لا تمارس أنشطة دعوية، والمتشدّدون في الحركة جرى إزاحتهم من المشهد الإعلامي ومواقع القرار، وعليه فالفصل هنا تكريسٌ لمسار سياسي، لكنه أيضاً تكريسٌ لأمر واقع يتمثل في غياب «النهضة» وتراجع تأثير التيارات الإخوانية لصالح السلف، لهذا يرفض جزء كبير من قواعد الحركة هذا التوجه.
وعلى رغم قناعة الباحث الفرنسي فرنسوا بورغا بأنه قرار مثير للاهتمام سيكون له تداعيات لوضع حدٍّ لعصر الإسلام السياسي، إلا أن تأثيره سيكون بسيطاً على التنظيمات المختلفة مع «النهضة»، لا بل قد تتعمّق الهوة بينها، خصوصاً وقد فقدت «النهضة» قدرتها على تعبئة الإمكانات الكاملة للأصوات الإسلامية مقارنةً بالأصوات الراديكالية».
مناورة لامتصاص الصدمة
المختلفون مع «النهضة» فسّروا الأمر بأنه وهمٌ ومناورة تاريخية لامتصاص صدمة المتغيرات الإقليمية والدولية، واعتبروا الخطوة مجرد فصل إجرائي شكلي وقانوني ليس إلا، خصوصاً إنها لا تتخلى عن المنهج الأصولي والوثيقة -العقدة التي تحمل عنوان «الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي» التي تبنتها في مؤتمر التأسيس 1981، وتعتبرها دستوراً ومرجعية آيدلوجية، بمعنى غياب المراجعات الفكرية التي تسمح للحركة بالقطع النهائي مع الأيدلوجية الإخوانية القائمة على أن الإسلام دين ودولة وعقيدة وشريعة.
وتبعاً لهذا الرأي، فإن الفصل المزمع يعد من استراتيجيات أو تكتيكات العمل المرحلي، بل وهروب للأمام خوفاً من الملاحقات والتورّط أكثر في الإخفاق. فيما تساءلت صحيفة «لابرس» عن مدى فاعلية تأثيره السياسي: «هل تريد حركة النهضة دمقرطة الإسلام أو أسلمة الديمقراطية؟»، وتساءلت صحيفة «الشروق».. «عمّا إذا كانت هذه الوعود ستبقى كلمات في الهواء»، وذهب آخرون إلى طرح أسئلة استنكارية واستفزازية؛ تدور بشأن التشكيك في انتهاج بعض قادتها للعنف وعدم قدرتها للخروج عن الإسلام الحركي؟
من جهته توصل الباحث توفيق المديني، إلى أن مصالحة «الشيخين» السبسي والغنوشي بعد انتقال حزبيهما من التعايش والشراكة في الحكم إلى مرحلة التحالف الاستراتيجي؛ هي مصالحة «مغشوشة» وموضع خلاف لاسيما فيما يتعلق بقانون «المصالحة الاقتصادية» الذي سمح لفئةٍ من الفاسدين في عهد الدكتاتور المخلوع والمتهمين بنهب المال العام والإثراء الفاحش بخوض الانتخابات التشريعية في 2014، كما يؤكّد اقتصاديون بأن سياسة «الترويكا» التي أصبحت تلقب بطبقة الأثرياء الجدد، قد فتحت البلاد أمام عقلية انتهازية للثراء عبر المضاربة في الأسواق، والتعامل مع شبكات التهريب دون رقابة ولا معايير، وعليه فالعلاقة -حسب المديني- جاءت للملمة الوضع على قاعدة «شيلني واشيلك»، في ضوء ارتفاع وتيرة الحرب على الإرهاب، والضغوط التي تمارس على تونس من الدول المانحة والمصاعب الاقتصادية، وما أدّت إليه من احتجاجات اجتماعية حيث تخشى السلطة من انهيار السلم الاجتماعي وحدوث انتفاضة شعبية جديدة.
في المحصلة النهائية، إعلان التحوّل من العمل الدعوي إلى السياسي الصرف، خطوة جريئة ومعقدة تواجه تحديات تتعلق بحاجة «النهضة» الشديدة إلى آيدلوجيا مركزية جديدة وسردية تاريخية جذابة مقنعة لكوادرها، بجدوى وصوابية هذا التوجه حسب نورالدين الزاوي، خصوصاً وأن مسار المناقشات بالقطع بين الحزبي والدعوي سيكون صعباً ومؤلماً وملتبساً. وثمة تحدٍ آخر يتعلق بتغير أنماط التربية التنظيمية بما يتناسب والفلسفة الجديدة وإدارة التدافع السياسي داخل الحركة؛ فالسائد لا يتناسب ومتطلبات هذا التوجه، إضافةً إلى ضرورة تغير الخطاب العاطفي الموجه للجماهير بحيث تقتنع أن الإقدام على خطوة التخصيص ليس تنازلاً ولا تفريطاً، ما يعني رفد الخطاب بمفردات تواصلية جديدة غير قائمة على السردية الإسلامية التقليدية «بأن الإسلام هو الحل»!.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5010 - الأربعاء 25 مايو 2016م الموافق 18 شعبان 1437هـ