في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أخفقت دول الاتحاد الأوروبي في الاتفاق على سياسة موحّدة بشأن الحد الأدنى للسن القانونية لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي كالـ»فيس بوك» و»تويتر» و»سناب تشات» و»انستغرام» وغيرها. وكان المقترح الذي ناقشته لجنة الشئون الداخلية والحريات المدنية بالبرلمان الأوروبي، في ذلك الوقت، يدعو لرفع السن القانونية لاستخدام هذه المواقع من 13 إلى 16 عاماً. كما كان سيحظر استخدام البيانات الشخصية للمستخدمين ممن هم دون 16 عاماً من قبل هذه المواقع، إلا أن فشل الاتفاق ترك لكل دولة الحرية في تحديد الحد الأدنى المناسب لاستخدام هذه المواقع إلى ما بين 13 و16 عاماً، على أن يتم إعادة مناقشة الأمر مرةً أخرى في وقت لاحق.
كان المؤيّدون للاقتراح يرمون لحماية الأطفال ممن هم دون سن المراهقة من استخدام هذه المواقع، إلا أن معارضي المقترح، ومن بينهم مؤسسات ومنظمات تعليمية وتربوية تعنى بالسلامة على الانترنت، وجدوا لهذه الخطوة ردود فعل قد تكون عكسيةً، وقد تحرم الفئة العمرية التي يغطّيها القرار، بسببه، من فرص تعليمية ومعرفية توفّرها هذه المواقع. أما شركات التكنولوجيا والتواصل فكان توجّهها الرافض لفكرة رفع الحد الأدنى للعمر، تجارياً بحتاً. وبذلك انهالت الدعوات لإجراء مسح جماهيري لهذا القرار «التربوي».
كانت هذه الدول المتحضرة تحاول أن تضع عمراً محدداً لما يسمى «الرشد الرقمي»، لكي تأمن على الصغار من سوء استخدام الوسائل التي لا سبيل للتحكم في محتواها، كما تفترض ببلوغهم ذلك العمر، أن يتفتح الوعي من سوء الاستغلال، ومع ذلك لقي مقاومةً حتى من المتخصصين التربويين والاجتماعيين الذين تَغلبُ، في ميزانهم للأمور، كفة النوايا الحسنة لدى كافة المستخدمين، مدفوعين بالرغبة في إتاحة استخدام كل تطور تكنولوجي لإيصال المعرفة لكل من بإمكانه استخدام هذه التكنولوجيا والاستفادة منها.
والتخوّف على الأطفال ليس من استخدام التكنولوجيا التي لا يجد حتى ممن هم دون 13 عاماً أي صعوبة في استخدامها، بل ملاحقة أدق التطورات واستخدامها، ولكن من كيفية التعامل في العوالم التي تدخلهم فيها هذه التكنولوجيا. هذا في الوقت الذي لازالت بعض الدول لا تتحرج من خفض توقعاتها من مواطنيها كباراً وصغاراً، وتفترض عدم أهليتهم لاختيار الصالح لهم، بحسب مقاييسهم، مما هو متاح في الفضاء الالكتروني وتفرض وصايتها على المواقع الالكترونية كما كانت تفرض رقابتها على الكتب في السابق، ولازال البعض منها حتى الوقت الحاضر يفعل ذلك.
وعلى رغم أن فكرة سن الرشد الالكتروني بمعناه الذي يناقشه الأوروبيون، يوحي بحماية المستخدم الصغير حتى بلوغه العمر الذي يميّز فيه بين الصالح والطالح، إلا أن بعض المجتمعات هي بحاجةٍ لاستخدام «سن الرشد» لدعوة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي فيها لكي يضبطوا هذا الاستخدام ويفترضوا في أنفسهم بعض المسئولية في استخدام هذه التكنولوجيا، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالآخرين. فالبعض يفضح دخولهم العالم الرقمي عمرهم الحضاري الذي لم ينمُ مع نموهم البيولوجي، فعلى رغم أنهم قاربوا عمر الكهولة إلا أنهم لم يصلوا سن الرشد بعد، الذي يملي على من يبلغه احترام الآخرين الذي يأتي من احترامه لذاته قبل ذلك.
وتتسع أضرار دخول غير الراشدين للفضاء الالكتروني لتُوقع الأذى بالمجتمع عندما يستخدمون اللغة العنصرية والمتدنية حضارياً تجاه الآخرين، وهذا ما دعا ألمانيا للإتفاق مع شركات «فيسبوك» و»غوغل» و»تويتر» العاملة في قطاع التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي، على إزالة تعليقات الكراهية والعنصرية من على مواقعها خلال 24 ساعة. وفي حينها قال وزير العدل الألماني هيكو ماس إنه «حينما يجري تجاوز لحدود حرية التعبير، حينما يتعلق الأمر بوجود تعبيرات إجرامية وفتنة وتحريض على ارتكاب جرائم جنائية تهدّد الناس، فإن مثل هذا المحتوى يجب إزالته من الانترنت». وذكر أن الشكاوى المتعلقة بخطاب الكراهية سيجري تقييمها من قبل «فرق متخصصة» في الشركات الثلاث (تقرير بي بي سي -16 ديسمبر 2015).
ووراء تخوّف البرلمان الأوروبي على صغاره، وتخوّف بعض الدول على ومن كبارها، يقف التكوين الثقافي الذي تشكّل على مر السنين في كلا المجتَمعين والذي يُوجّه التفكير ويُبلور القوانين التي تُصاغ من أجل تنظيم شئون الحياة لتحمى حقوق الضعيف وتشكم بطش القوي. وكلما ازداد الإنسان تحضراً كلما كان أكثر مسئولية في استخدام القوة التي تتوفّر له، وهذه القوة تأتي من خلال أدوات كثيرة، فالعضلات في الجسد قوة بمعناها الفسيولوجي الحرفي، والمال قوة، والتطور التكنولوجي قوة، والتفوق العلمي أيضاً قوة. وكلما ازداد تحضّر الإنسان كلما كان الخير والشر أكثر تعريفاً ووضوحاً، وكلّما قلّت حاجته للقوانين المفروضة عليه من الخارج واستخدم قيمه وقيم مجتمعه لتطوير قوانينه الذاتية، وليكون، بغض النظر عن عمره البيولوجي، في منزلة الراشد رقمياً وعقلياً وحضارياً.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 5009 - الثلثاء 24 مايو 2016م الموافق 17 شعبان 1437هـ
يتبع》لم تغفلي أضافة مصطلح يترجم مفهوم جديد(الرشد الرقمي) تحفيز على المعرفة وتنمية معجم الثقافة لدى الفرد .. ع الاقل هذا ما ينتابني كلما قرأت لك.
بقلب المهتم وبعقل الباحث وبحيادية الملاحظ تناولت مسألة هامة تكاد تشمل جميع الأطراف كل من زاوية مايقلق بشأنه.. تربية أجيال او ثقافة تهدد مجتمع.