قبل استشهادهنّ اصطَحَبَهُنّ والدُهنّ إلى «بحر قطاع غزة». كان قد اشترى قطعة أرضٍ هناك وأراد أن يجعلها لهنّ مفاجأة تُنسِيهنّ مأساة فقدِهنّ لأمهنّ التي فارقتهنّ قبل شهور. نزلت الشابات الثلاث إلى البحر: بيسان (21 عاماً) وميار (15 عاماً) وآية (13 عاماً) وبدأنَ يكتُبنَ أسماءهنّ على التراب. وبين فينة وأخرى يأتي موج البحر ليغسل التراب ويمحي أسماءهن في مشهد درامي سيُجسِّدْنه عملياً بعد أيام. إنه الموعد المحتوم: الجمعة، الخامس عشر من شهر يناير/ كانون الثاني سنة 2009 عندما كانت غزة تحترق بفعل الهجمات الإسرائيلية الوحشية ضمن عملية ما سُمِّي حينها بـ «الرصاص المصبوب»، حين جاءت قذيفة مميتة لتقضي على الأخوات الثلاث وهنّ في غرفتهن ومعهنّ ابنة عمّهنّ نور وتقطعهنّ إرباً إرباً. كانت مستشفيات قطاع غزة حينها تعجّ بـ 5000 إصابة خطيرة، وكان القرار بضرورة نقلهنّ إلى خارجها.
«الوسط» التقت بوالد الفتيات الشهيدات عزالدين أبوالعيش الذي اشتُهِرَ بهذا المصاب الجلل الذي حَلّ به، ثم بتأليفه كتابه الأشهر الذي أطلق عليه اسم: «لن أكره» والذي تُرجِمَ إلى 23 لغة، فكان معه الحوار التالي:
عنونتَ كتابك بـ «لن أكره» (I SHALL NOT HATE)... لن تكره مَنْ؟
- لن أكره أحداً ولن أسمح لهذا المرض القاتل المدمر والمسَمِّم الذي يُعرف باسم الحقد والكره أن يقترب مني. لأن الكراهية والحقد والبغض هي أمراض مُدمّرة للإنسان.
للمجتمعات التي بها أزمات؟
- لا... بشكل عام. لو أن كل واحد منا تعرض لمشكلة أو أذى من شخص آخر، وعالج أمره بالتجاوب مع ذلك الأذى عبر الحقد والكراهية لوجدنا أنفسنا غارقين في محيط من الكراهية.
لو قلتُ إنني لن أكره فسيكون الموضوع مُجرّداً، ولن تكون له تبعات ولا تأويلات. ولكن لأنك صاحب المصاب ووليّ الدَّم فسيذهب التأويل مباشرة إلى أنك ربما لن تكره حتى قاتل بناتك. ما تعليقك؟
- لن أكره، لكنني لن أتنازل عن حقي. إنني أتساءل هنا: هل هذه المأساة التي عشتها هي الوحيدة في حياتي؟ لا. لكن لدي هدف أسمى من ذلك وهو التغلب على هذه المعاناة. كيف يكون ذلك؟ يكون أولاً بتحمُّل المسئولية والعمل الجاد وليس العيش في كراهية لا تنتهي. يجب أن أكون أكثر قوة وإصراراً وأكثر عزيمة من خلال حصولي على درجات علمية تساعدني وتعطيني الحصانة والمناعة لمواجهة هذه المشاكل. هذا ما كنتُ أعنيه بلفظة: «لن أكره» والتي ربما يُفسّرها البعض تفسيراً سطحياً وبالقول إنني لن أكره الإسرائيلي.
لن تكره وفي الوقت نفسه تريد مواجهة الواقع المنطوي على الظلم والمعاناة... كيف؟
- كتبتُ هذه العبارة في كتابي: لو كنتُ أعلم أن بناتي سيكنّ آخر الضحايا من أجل السلام في مسيرة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حينها كنتُ سأقبل بما حلّ بِهِن.
وما عدا ذلك لا؟
- بالتأكيد. وعلى رغم ذلك مازلت أصرّ على السلام العادل المبني على العدل والمساواة والحق والاختيار الشخصي.
هناك مثل يقول: حيث جَرَت الدماء لا تنمو أشجار النسيان. هل نسيتَ مأساة بناتك؟
- لن أنسى هذه المأساة
إذا كنتَ غير ناسٍ لهذه المأساة فما هي أدوات المواجهة مع الإسرائيلي؟
- أول شيء الإيمان بحقي ثم بثقتي في نفسي أنني قوي من دون الحاجة إلى الحقد والكراهية التي ستجعلني ضعيفاً. إنني مؤمن بأن الكراهية ما هي إلاّ أثقال تزيد من وزن الإنسان وتحد من حركته. ثانياً: بالعلم الذي نلته لأستعين بنوره كي أرى الطريق الصحيح للوصول إلى الهدف. مهنتي كطبيب ساعدتني كثيراً في أن أتقدم إلى الأمام. حينما أرى مريضاً وأعالجه ثم يُتوفَّى فهل أبقى عند ذلك المريض أم أنتقل إلى المريض الآخر الذي ينتظر؟! الحياة لا تتوقف يجب أن أتعلم من العبر، لماذا توفي ذلك المريض، وأتعلم من هذه الحادثة كي لا يموت مريض آخر. لقد علمتني الحياة أن كل ضربة أتلقاها تزيدني قوة وإصراراً وصلابة. لكن لتسمح لي أن أعارض ما تفضلتَ به من قول وهو «حيث جَرَت الدماء لا تنمو أشجار النسيان»، فهذا مَثَلٌ خاطئ، ويجب ألاّ نعتمد على هذه الأقوال. بعض الأمثال مُحبطة. على العكس يستطيع الإنسان أن يحوّل الأرض الجرداء إلى جنة خضراء. ويستطيع الإنسان أن يُحول المأساة إلى خير: «وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (البقرة: 216). يجب ألا نرى الأشياء بعيون سوداوية بل بعيون أمل وتحدٍ ومقدرة على تحويل تلك المعاناة إلى عمل إيجابي.
هنا يثار تساؤل: فمسألة القصاص هي أمر حقوقي واجتماعي معروف. «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة: 179)، وربما كان النهي عن الانتقام والضغينة عند العرب في غابر الأيام لأنهم كانوا يقتلون الجمع بقتل واحد لذلك نُهِيَ عنه، وجاء العفو مرجحاً لأنه منطق إنساني يحارب الأعراف البالية لكن وفي الوقت نفسه لم يمنع عليهم أخذ حقهم. أنت الآن وفي ظل اختلال موازين القوى ألا تريد أن تسترجع حقّ دماء بناتك الشهيدات حتى ولو عبر الدّية (تعويض) لحفظ حقهن؟
- دعني أضيف منطقاً قرآنياً آخر: «وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ» (الشورى: 43). الرسول (ص) حينما علم بمقتل عمه الحمزة، وبعدما قامت هند بنت أبي سفيان بأكل كبده، ماذا كان رد الرسول (ص): لَئِن ظَفرت بِقُرَيْش لَأُمَثِّلَن بسبعين رجلاً مِنْهُم. فأنزل الله تعالى: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِين» (النحل 126)، فقال الرسول (ص): بل نصبر يا رب كما جاء.
ماذا لو سألتك بشكل مختلف: القضية التي حَصَلَتْ هي ليست شخصية بل هي في سياق صراع إسرائيلي فلسطيني، بين محتل وبين شعب يقاوم، وعادة في الصراعات تكون هناك محاكمات محلية أو دولية وهي تشكل عامل ردع للجرائم التي تقع في الحروب والصراعات. هل تعتقد أن قضية البنات الشهيدات لو أخذت طريق المحاكمات سيكون هناك رادع؟ وهل ستتابع قضية الشهيدات الأربع قضائياً وحقوقياً وجنائياً؟
- أولاّ من حقي إذا أردتُ أن أصبر فذلك بإرادتي الشخصية ولا أحد يغصبني على شيء. فإما أن تأخذ حقك بمثل ما أمر الله أو أن تغفر وتحتسب أجرك على الله. لكنني سأقول لكَ شيئاً. المعركة لم تنتهِ باستشهاد بناتي. لقد تم قتل البنات لتبدأ معركة كنتُ ومازلت أحارب من أجلها وهي أن يعترفوا ثم يعتذروا عن قتلهم لبناتي. عندما حصلت الحادثة توالت الأكاذيب في الصحافة الإسرائيلية. في بداية الأمر قالوا إنهم قصفوا بيتي لأنهم وجدوا على سطح المنزل قناصة فلسطينيين، فلم تنفع هذه الرواية. ثم قالوا إنه كان هناك إطلاق نار من محيط البيت فتم الرد على إطلاق النار وجرى ما جرى فلم تنفع هذه الرواية هي الأخرى. فقاموا بعمل مونتاج حيث وضعوا سلاحاً في البيت ثم قالوا إن هذا الرجل كان لديه مسلحون فتمّ التعامل معهم، فلم يقتنع أحد بما قالوه. ثم فعلوا منكراً آخر بأن طعنوا البنات وهنّ أموات ثم قالوا إن هذه القذائف من صواريخ «حماس»! آخر محاولة من جانبهم أنهم اتصلوا بي وقالوا إنهم استخرجوا بعض الشظايا من جسد ابنة أخي لفحصها وطلبوا مني الحضور كي أرى النتيجة. قلتُ لهم: إن الحقيقة موجودة لدي فقط. لا يمكن أن تكونوا الجلاد والمحقق والقاضي. أَخَذَت المداولات شهراً كاملاً إلى أن ظهرت الحقيقة حيث اعترف الجيش الإسرائيلي أنه هو مَنْ قصف البيت. ولما بُلّغت بهذا الاعتراف طلبت منهم أن يعتذروا عن الخطأ. والاعتذار يحتاج إلى جرأة لأن ما يمنع الناس على الاعتذار هو الخوف. استمرت مساعيّ سنتين كي أنال اعتذاراً منهم لكنهم لم يعتذروا. في قوانين التقاضي الإسرائيلية لديهم قانون يفيد بأنني إذا لم أرفع قضية في هذا الأمر فإنها تسقط بعد عامين. اضطررت إلى رفع قضية ضد الاحتلال الإسرائيلي بعدما أُغلِقَت كل الطرق أمامي ومازالت مرفوعة في المحاكم الإسرائيلية، ودفعت 20 ألف شيكل عن كل قضية. قاضي المحكمة رفض كل القضايا التي رُفِعَت جراء عملية الرصاص المصبوب التي تم فيها استشهاد البنات إلاّ قضيتي وبدأ في جمع الشهود. عملتُ كل ذلك لأنني موقن بأنك إذا أردت أن تصل إلى حق فليس بالعنف بل بالمنطق والعقل لأنه الأقوى. وقلت لهم إن جميع مبالغ التعويض إذا ما جاءت ستذهب إلى مؤسسة «بنات من أجل الحياة» التي أديرها، فَدَم البنات أغلى من أي شيء.
هل الشعب الفلسطيني صاحب الذاكرة المشحونة بالمآسي يقبل هذا المنطق؟
- أذهب إلى فلسطين مرتين في العام، وأقول الكلام ذاته هناك سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية. الشعب الفلسطيني شعب متسامح ولديه قدرة على التسامح ويريد أن يتخطى هذه المآسي، ويرى أن عملي هو عمل إيجابي لأنه أقوى من كل الرصاص. إذاً هذا الخطاب مقبول ومُشجّع عليه في الداخل الفلسطيني. البارحة وضعت على صفحتي في «الفيسبوك» محاضرتي التي ألقيتها وشاهدتُ كيف التفاعل معها، من داخل فلسطين ومن خارجها. لذلك يجب أن نبحث عن الحقيقة، كي لا نتيه في الأحكام الخاطئة. كيف عالجتُ هذه القضية. أنا أعمل بالذي يُرضِي ضميري والذي قد يخدم قضيتي والذي سيحاسبني عليه ربي وبناتي الشهيدات. لديّ كل الحق أن أقول ما أريد لأني أعرف معنى فقد الأحبة وأن أدافع عن أطفال فلسطين. ومن لم يعجبه فليفعل شيئاً للشعب الفلسطيني. لقد واجهتُ خلال مأساتي قيادات فلسطينية كانت تتحدث في الغرف المغلقة أن ما قام به أبوالعيش أفضل بكثير مما نقوم به لكن كنت أتمنى أن يخرجوا في الشارع ويقولوا ذلك. شعوبنا العربية شعوب عاطفية ولا تريد أن تواجه الحقيقة.
هل عَقَدتَ ندوات داخل إسرائيل؟
- نعم. كنت في جامعة حيفا وتحدثت هناك وفي الأماكن العربية كلها.
بالمناسبة ما هي مؤسسة «بنات من أجل الحياة»؟
- أنشأتُ هذه المؤسسة تخليداً لبناتي الشهيدات وأنا أرأسها كمتطوع ولدينا موظفون يديرونها في كندا، وهي تساعد جميع البنات من الشرق الأوسط من دون تمييز من يهود ومسيح ومسلمين ودورز ومن أية ملّة كي يواصلن تعليمهن. وهذه الرسالة هي الرسالة الأقوى وهي رسالة التسامح. فأنا اليوم لست ضحية بل أصبحتُ إنساناً يملك المبادرة.
كم طالبة تقوم المؤسسة برعايتهن؟
- كل سنة نعطي 100 منحة لطالبات يدرسن داخل فلسطين المحتلة وفي الأردن وفي سورية ولبنان وغيرها من الدول العربية. وكل سنة نأخذ من 10 إلى 15 طالبة للدراسة في أميركا وكندا. وتكاليف هذه الدراسة هي بمجهود ذاتي من خلال علاقاتي بالجامعات، بالإضافة إلى المحاضرات وبعض التبرعات الشخصية.
ما معايير القبول؟
- تفوُّق بنات يأتين من ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة، ويجتزن امتحان القبول للغة الإنجليزية (TOFEL)، ونقوم بمقابلتهن في المؤسسة وكذلك الجامعة ثم نختار أفضل الطالبات، ونأمل خلال سنتين أن نحوّلها إلى مؤسسة دولية.
هل حصلت على تعاطف أو دعم من الدول العربية؟
- هذا هو المؤلم. كتابي نُشر بـ 23 لغة. العديد من رؤساء العالم قرأوا الكتاب واستشهدوا به وزرت 60 أو 70 دولة. لكن أين نحن في العالم العربي من هذا. في الوقت الذي نحن في حاجة إلى دعم هذه الرسالة وتبيينها. أين ما أذهب في العالم يتم استقبالي. آخر محاضرة لي كانت في جامعة كولومبيا. الرئيس الكولومبي استشهد بما قلته وخاطب شعبه، وتم ترشيحي لنيل جائزة نوبل. أنا أناشد الجميع أن من يريد تغيير واقعنا فلينضم إلى هذه المؤسسة التعليمية لتعطي الأمل والخير وبناء أجيال المستقبل.
أتمنى لك التوفيق من الله .. ~
كلام كبير من رجل كبير عاش وعانى اسوء الظروف بفقدان فلذات مبده رحمهم الله. موقف شجاع ومتقدم في مفهوم التسامح وعدم الكراهية. قليل من البشر يملكون القدرة على هذا التصرف.
كل الاحترام والتقدير لهذا الرجل الرمز اللذي يسخر علمه وعمله وحياته وممتلكاته لخدمة قضية بناته، قضية تعدت حدود قطاع غزة لتصل الى جميع دول العالم ولتخدم وتساعد بنات المنطقة ذات الامكانيات الذهنية العالية والامكانيات المالية المعدومة.
ان عدم الكراهية والتسامح هي ميزة عظيمة وملكة يمتلكها اللمميزون عند الرحمن اصحاب الاخلاق العالية