شاركت 72 دولة في المؤتمر الدولي الخامس للغة العربية الذي انعقد في إمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة بفندق البستان روتانا، في الفترة ما بين 4 و 7 مايو/ أيار 2016؛ حيث تم تقديم 1127 بحثاً في اللغة والترجمة والإبداع الفني والأدبي. ومن بين ذلك العدد من الدراسات، عمدت مئات منها إلى تحليل أسباب تدهور لغة الضاد وسبل إقالتها من عثرتها.
وعلى هامش أعمال المؤتمر السنوي والذي تم تحت رعاية نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، قام سموه في ختام الحفل الافتتاحي بتكريم الفائزين في الدورة الثانية لجائزة محمد بن راشد للغة العربية.
ومن المؤسسات الفائزة «دار الفرح» بسويسرا، عن أفضل مبادرة لتعليم اللغة العربية وتعلُّمها في التعليم الأول والمبكّر، وفاز المركز الوطني للقياس والتقويم السعودي بجائزة أفضل مبادرة تعليم وتعلُّم اللغة العربية للتعليم قبل الجامعي، ومركز الشيخ محمد بن خالد آل نهيان الثقافي، بجائزة أفضل مبادرة لتنمية ثقافة القراءة عن مبادرته «بالعربية نقرأ»، ومركز بيت اللغة اللبناني بجائزة أفضل برنامج أو تطبيق ذكي لتعليم اللغة العربية واستخدامها في مجالات الحياة، من خلال موقع «أصحابنا» الإلكتروني، وفاز الجزائري طه زروقي بجائزة أفضل مشروع لتطوير ونشر المحتوى الرقمي العربي ومعالجات اللغة العربية، وفازت إذاعة الشارقة بجائزة أفضل عمل إعلامي باللغة العربية عن البرامج الثقافية.
وفاز نصرالدِّين إدريس جوهر (إندونيسيا) عن أفضل مبادرة في استعمال شبكات التواصل الاجتماعي من خلال إنشائه موقع «لسان عربي»، وفاز «مركز عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية» السعودي عن أفضل مبادرة في التخطيط اللغوي، وفازت مدينة الملك عبدالعزيز عن أفضل مشروع تعريب وترجمة.
تكريم «ألكسو»
كما كرّم راعي المؤتمر سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم منظمة «ألكسو» (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) لجهودها في صيانة اللغة العربية والنهوض بالثقافة العربية في شتى المجالات، وخاصة اهتمامها بالمخطوطات والترجمة ووضع المناهج العربية.
وهذه هي المرة الرابعة على التوالي التي يعقد فيها المؤتمر الدولي للغة العربية دوراته السنوية في دبي، بعد أن عقد دورته التأسيسية الأولى في بيروت، في مارس/ آذار 2012، ثم ارتؤي للظروف الراهنة التي يمر بها لبنان، وبالنظر إلى ضخامة أعداد الوفود المشاركة، والذي يتطلب تأمين أمنهم وسلامتهم، نقل انعقاده السنوي إلى دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة.
والجهة التي تنظم المؤتمر هي المجلس الدولي للغة العربية، وهو منظمة دولية مستقلة تجمع في عضويتها مؤسسات أهلية وحكومية ومجامع وجمعيات وجامعات واتحادات ونقابات ومؤسسات فكرية وثقافية وإعلامية. وقد جاء إنشاء المجلس على إثر قرار «اليونسكو» في العام 2005 بجعل العام 2008 سنةً دولية للغات، وما تلا ذلك من خطوات ومبادرات لإنشاء المجلس الدولي للغة العربية، وترحيب «اليونسكو» بهذه المبادرة التي حظيت بدعم عربي ودولي كبير، وتم التوافق على أن يكون هذا المجلس منظمة دولية مستقلة مقرها بيروت، ويحظى بجميع الحصانات والمزايا التي تحظى بها المنظمات الدولية العاملة في إطار الأمم المتحدة.
ومن أهم الوثائق التي صدرت عن المجلس والتي تُعدُّ أشبه بمنهاج عمل لإنقاذ اللغة العربية من وضعها الحالي المتردِّي، والنهوض بمستواها على الساحة الدولية بما يليق بمكانتها التاريخية الحضارية، الوثيقة الصادرة عن المؤتمر الأول الذي عُقد في بيروت وهي بعنوان «اللغة العربية في خطر... الجميع شركاء في حمايتها» وتتجلَّى أهميتها بأنها شخَّصت بعمق الوضع الذي تمر به اللغة العربية في المرحلة التاريخية الراهنة، وحدَّدت ثلاثة عشرة مجالاً يمكن من خلالها النهوض باللغة والتصدِّي لتدهورها وتراجع مكانتها ومن هذه المجالات: الدساتير وأنظمة الحكم، القوانين والتشريعات، الأنظمة التعليمية، البحث العلمي، التعريب والترجمة، سوق العمل، الإعلام، والثقافة. وكذلك الثانية التي صدرت عن المؤتمر الثاني الذي عُقد في دبي العام 2013 بعنوان «قانون اللغة العربية».
1167 بحثاً ودراسة... والجزائر تتصدَّر
ولعل ما يميِّز مؤتمر هذا العام حجم عدد الباحثين المشاركين، والذي وصل إلى 2500 باحث متخصص، وكذلك عدد الدول المشاركة، والذي بلغ 72 دولة عربية وغير عربية من مختلف قارات العالم. ومن أبرز الدول غير العربية وغير الإسلامية التي شارك منها باحثون بدراسات متميزة في المؤتمر كل من: اليابان، والصين، وكوريا الجنوبية، والهند، وفرنسا، وألمانيا، والولايات المتحدة، والسويد، وكندا، هذا بخلاف كل الدول العربية وعدد كبير من الدول الإسلامية.
ومقارنة بعدد أبحاث المؤتمر السابق الذي عُقد العام الماضي (725 بحثاً)؛ فقد قفز هذا العدد هذا العام ليصل إلى 1167 بحثاً ودراسة وورقة عمل، موزعة على 172 ندوة وجلسة عامة موسعة، شارك فيها بالحوار والمداخلات ما يقرب من 1250 متحاوراً ومعقّباً. واللافت في عدد الباحثين المشاركين الحجم الكبير لعدد الباحثات الإناث؛ إذ يقترب، إلى حد ما، من عدد الباحثين الذكور، ففي حين بلغ عدد الذكور 677 باحثاً من كبار أساتذة اللغة العربية من الجامعات والمراكز والمؤسسات العلمية في العالم، بلغ عدد الإناث 490 باحثة، وجزء كبير من كلتا الفئتين هم من حملة الدكتوراه (867 باحثاً).
وقد تصدَّرت الجزائر الدول المشاركة في عدد الباحثين والأبحاث المقدمة للمؤتمر (246 بحثاً)، تليها العراق (137 بحثاً)، ثم مصر (110 أبحاث)، ثم نيجيريا (79 بحثاً)، وتأتي السودان في المرتبة الخامسة بـ (64 بحثاً). أما دول مجلس التعاون الخليجي والتي تحتضن إحدى دولها (الإمارات) المؤتمر فهي للأسف من أقل الدول في عدد الباحثين المشاركين، فإذا ما استثنينا السعودية التي تتصدَّر دول مجلس التعاون في عدد الباحثين المشاركين (62 باحثاً) فإن أعداد الباحثين المنتمين إلى بقية دول مجلس التعاون متواضعة جداً؛ إذ تأتي في المرتبة الثانية سلطنة عُمان (19 باحثاً)، ثم البحرين (5 باحثين) والتي لم يحضر منهم سوى 3 باحثين وحاضرين، وهم كل من: الاختصاصي بإدارة الإشراف التربوي بوزارة التربية والتعليم، حسين أحمد حسين، والذي شارك ببحث بعنوان «واقع اللغة العربية في اللوحات الإرشادية والإعلانية بمملكة البحرين»، ومديرة البحث العلمي بالأمانة العامة لمجلس التعليم العالي، معصومة عبدالصاحب، والتي شاركت ببحث تحت عنوان «أهمية تيسير النحو لتقريبه بين الأبناء» والثالث كاتب هذه السطور، وقطر (3 باحثين)، ثم تأتي الكويت في ذيل قائمة دول مجلس التعاون المشاركة في المؤتمر؛ إذ لم يشارك منها سوى باحثيْن اثنين.
الجزائر... قضايا الهوية والتعريب
ولعل تصدُّر الجزائر الدول المشاركة في حجم عدد الباحثين المشاركين في المؤتمر، يفسره شعور النخبة المثقفة والأكاديمية المتمسِّكة بهويتها اللغوية والوطنية بوطأة بقايا التركة الاستعمارية الفرنسية الثقافية والفرانكوفونية الجزائرية؛ إذ مازال لهذه الأخيرة لوبي قوي متنفذ في أجهزة الدولة والمؤسسات الثقافية والإعلامية والمجتمع الجزائري عموماً، ومن ثمَ شعور هذه النخبة الوطنية العروبية الإسلامية بالدور الوطني المُلقى على عاتقها لمكافحة رواسب الإرث الثقافي الفرنسي الاستعماري التي لم تتبدد تماماً، وما تسبِّبه من جراح مازالت غائرة في نفوس الجزائريين على تعاقب أجيالهم منذ الاستقلال (1962)، ولعل ما يؤكد هذا الاستنتاج الذي نستخلصه، أن أغلب عناوين دراسات وأبحاث الأكاديميين والباحثين الجزائريين المقدمة للمؤتمر تتمحور مضامينها حول قضايا الهوية الوطنية والتعريب، وسُبل رفع مكانة اللغة العربية في الجزائر والغضب المتصاعد الذي يتفاقم غلياناً في النفوس من تهميشها وازدرائها، على رغم مرور أكثر من نصف قرن من الجهود والمشاريع وخطط التعريب لإزالة التركة الثقافية الثقيلة البغيضة التي خلفها المستعمِر الفرنسي وراءه بعد انسحابه العسكري من البلاد.
كما من الظواهر اللافتة للنظر في مؤتمر هذا العام، والأعوام السابقة إلى حد ما، والتي تبعث على شيء من التفاؤل بمستقبل اللغة العربية، أن عدداً كبيراً من المشاركين الذين وفدوا من دول عربية وغير عربية وقدموا أبحاثاً رصينة جاءوا على خلفية تخصصات علمية مختلفة لا صلة لها بالتخصص الأكاديمي في اللغة العربية أو الآداب أو الفقه أو الشريعة.
ونظراً إلى العدد الهائل للدراسات والأبحاث المقدمة؛ فقد تميَّزت أيام المؤتمر الثلاثة بالكثافة والضغط الشديد المرهق لكل المشاركين والمنظمين على السواء، فساعات فعاليات وورش عمل المؤتمر امتدت على مدار ما يقرب من 12 ساعة يومية موزعة على فترتين صباحية ومسائية وجاءت موزعة على شكلين: الأول، جلسة عامة تتناول موضوعاً مهماً رئيساً من قضايا اللغة الكبرى، حاضر فيها نخبة من كبار أساتذة ومفكري اللغة، والشكل الثاني انعقاد أكثر من 50 ندوة في اليوم الواحد في عدة قاعات وفي أوقات مختلفة يحاضر في كل منها ستة باحثين أو أساتذة متخصصين في اللغة العربية.
وفي اليوم الأول من أعمال المؤتمر تناولت الجلسة الأولى الرئيسة، جهود الجامعات العربية في خدمة اللغة العربية، وشارك فيها كل من: مدير جامعة الإمارات، علي راشد النعيمي، ورئيس جامعة القاهرة، جابر جاد نصّار، ورئيس جامعة الجزائر، حميد بن شنيتي، ورئيس جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية السعودية، فهد بن عبدالعزيز العسكر، والأمين العام لاتحاد الجامعات العربية (الأردن)، سلطان أبوالعرابي، ومدير عام مؤسسة الفكر العربي (لبنان)، هنري عويط.
أما الجلسة الثانية الرئيسة التي جاءت في اليوم الثاني من أعمال المؤتمر فقد تناولت دور جمعيات الكليات المتناظرة في الوطن العربي في خدمة اللغة العربية، وشارك فيها كل من: عميدة كلية التربية بجامعة دمشق أمل الأحمد، وعميد كلية الآداب بجامعة مؤتة الأردنية، يوسف أبوالعدوس، وعميد كلية اللغات بجامعة تشرين في اللاذقية، جهاد سلوم، وعميد كلية الصيدلة بجامعة دمشق، عبدالحميد نتوف، وعميد كلية الموسيقى بالجامعة اليسوعية اللبنانية، يوسف طنوس، وعميد كلية السياحة والفندقة بجامعة قناة السويس، عاطف أبوالنور.
10 فائزين بجوائز المؤتمر
أما الجلسة العامة الثالثة الرئيسة التي جاءت في اليوم الثالث والأخير من أعمال المؤتمر فقد تناولت جهود المملكة الأردنية الهاشمية في خدمة اللغة العربية، وقد حاضر فيها: رئيس مجمع اللغة العربية في الأردن، خالد الكركي، وتناول فيها قانون حماية اللغة العربية الذي أصدره العاهل الأردني عبدالله الثاني بن الحسين في العام 2015، وما يستتبعه من تعديل قانون مجمع اللغة العربية الأردني، وإلزام المؤسسات الحكومية والأهلية بقانون حماية اللغة العربية، وتحديد الآليات والإجراءات التنفيذية والمهام والمسئوليات لإنفاذ القانون.
وأخيراً، فمن مجموع الدراسات الـ 1167 التي قُدمت للمؤتمر فاز عشرة منها بجوائز المؤتمر بناء على تحكيم لجنة مختصة مُشكَّلة من قِبل المجلس الدولي للغة العربية تمخضت عن أعمال المؤتمر. وأصدر المؤتمر في بيانه الختامي ما يقرب من 12 توصية دعا في بعضها الباحثين والمهتمين والمؤسسات الحكومية والأهلية إلى إيصال صوتهم إلى صنَّاع القرار حول المشكلات التي تواجهها اللغة العربية في بلدانهم، واعتبار رفع شأن اللغة الأجنبية بصورة مُبالغ فيها؛ وخاصة في المجال التعليمي على حساب العربية انتهاكاً للدساتير الوطنية العربية التي نصَّت جميعها على أولويتها، وأنها لغة الدولة المعتمدة في مؤسسات الدولة والمؤسسات الأهلية على السواء.
ومن التوصيات التي نادى بها المؤتمر دعوة الدول العربية إلى تسييد مكانة اللغة العربية على أي لغة أجنبية أخرى في المؤسسات الحكومية والأهلية، وأن اللغة العربية باتت مسألة أمنية يعرِّض تهميشها الوحدة الوطنية والسلم الأهلي للخطر. كما طالب المؤتمر بجعل الإلمام بها مستلزماً من متطلبات الكفاءة والخبرة في سوق العمل، وليس كما هو سائد حالياً حيث باتت اللغة الأجنبية الثانية هي معيار الكفاءة الأول، ودون الاكتراث بمدى التزام المتقدم للوظيفة بلغته القومية أو تدني مستواه فيها.
كما دعا المؤتمر إلى الاهتمام بالتعريب والترجمة العلمية والثقافية والتقنية والصناعية لسد الفجوة التي تتسع اطرادياً بين اللغة العربية والعلوم والمعارف والتقنية والصناعات الحديثة، كما دعا المؤتمر الدول العربية إلى سن قوانين تجرِّم من يُحارب اللغة العربية ويزدريها أو يعمل على تهميشها وإقصائها من مواقعها الطبيعية، ودعا كذلك الدول العربية إلى الاستفادة من وثيقة «قانون اللغة العربية» التي أعدَّها المجلس الدولي للغة واعتمدها اتحاد المحامين العرب كمنهاج استرشادي في جهود تعزيز ورفع مكانة اللغة العربية؛ وخاصة في المؤسسات التعليمية والعلمية.