المزدحم بالسفر... المشغول بالبرِّيات... المتآخي مع الغياب يتجلَّى له حضوراً في أكمل وجه... بعيداً عن النقصان... يلكز الريح حين يكون في خلْوته... له في الدرس ألِفٌ كأنها حرْبة حين يدافع عن حضور الأصدقاء. ذلك هو نص القاص والروائي والشاعر الإماراتي عبدالله محمد السبب. البدوي... الصخري... المائي حدَّ ما بعد العذوبة.
كتبت عنه ذات سرْد، وفي ذلك كتابة عن نصه: لا أعرف وفاء في الأصدقاء، في الغياب والحضور، مثلما أعرف «السبب». إلى الذين يرحلون يستدعي مخزون الوفاء الذي ادَّخره حين تفيض روحه بالغياب، فالرثاء لا يجيده؛ كون الرثاء نصَّاً مقابل غياب، فيما هو لا يرى غياباً كي يتورَّط في ذلك الدرس المكتنز بالضجر.
في مجموعته «صلاة»، وعديد من الإصدارات، نقف على هوية ذلك الوفاء... وفيُّ أسرار، وذكريات، وما أمضَّ من تفاصيل ذات حضور. نقف على الترائي... على الأصدقاء الذين يشكِّل من أصواتهم وملامحهم وأرواحهم أكثر من قوس قزح، وأكثر من قدرة على استحضارهم في ما أودعوه عنده، وفي ما لم يُمهلهم الوقت كي يكملوا النقطة الأخيرة نهاية نص الحياة!
في المجموعة نفسها: يعدُّ سلالم كي يطمئن إلى أناقة صعود الأصدقاء النهائي إلى هناك؛ حيث يقدِّمون ويقرؤون نصوصهم الأخيرة والأثيرة. يعدُّ إهداءه كما يعدُّ سفْراً مرهقاً بتلك الينابيع الموَّارة من المعنى، وتكثيف الحرْقة والفرح في آن: الفرح بأن النسيان لم يراوده عن نفسه. يكتب: «إلى رفاق قصيدتي، في ذكراهم: «خليفة محمد خليفة، جمعة الفيروز، علي العندل، أحمد راشد ثاني، كلكم شاعر، وكلكم مسئول عن قصيدته».
في «المتوفى بعد كلمة أيضاً»: «ومن الشر ما قتل، سأكتب شعراً جميلاً، وأنادي المخلوقات المتوحِّشة... يا أنتم: كونوا قوس قزح يمشي... السماء شجرة زرقاء... اللقيط الأول الذي لم يُبالِ إننا نقول لو كنت أستطيع أن أنظر إلى خلايا عقلي المتحركة عربة ساخنة، يسقط منها شيء أسود يتكوَّم».
في امتياز الفراغ... فراغ الأمكنة منهم، يطل امتيازه الأثير، في القدرة على أن يكون وفياً لما يتذكَّر وما لا يريد الاعتراف بنسيانه. كأنه امتياز القلب هذه المرة. القلب القادر على أن يكون بيت الأصدقاء الأبدي... بيت الأصدقاء الذين يهربون إليه من كلاب ذعرهم، ووحوش الغد الكامنة وراء المصادفات المُرَّة... بيت الأصدقاء الذين تنوء كواهلهم بالسجْع الحزين، وحداء بدوي في ليل طويل بطول الطريق إلى الصبح أو النبْع. يكتب إلى علي العندل: «الصخور مسامير ليالٍ نائمة، البحار غابات مياه زرقاء، وألواح فقدتْ عيونها في المضيق».
كلما رحل الأصدقاء، كلما وزَّع حنطة قلبه إلى الباقين، ولو نام على الطوى. كلما توهَّم غياب الأصدقاء، يوْلم حضوراً للذين خانتهم الجهات، وكسرت أرواحهم الأبواب الموصدة بعد سفر ووجع وغربة وجوع للعاطفة والملاذ.
كلما رحل الأصدقاء توهَّج النص لديه كأنه للتوِّ استوى من تنُّور يوقده بحطب انتظاره، والغد الذي يؤثثه بالكلام الأنيق. الأنيق أناقة الذين يحبهم، وأناقة غيابهم الذي تساوى مع الحضور.
عبدالله السبب في: «الحلم، أول فدائي في الهذيان»!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 5005 - الجمعة 20 مايو 2016م الموافق 13 شعبان 1437هـ
عبدالله السبب كما عرفته انسانا كبيرا عميقا شفافا كما يليق به.. هاشم المعلم