العدد 5005 - الجمعة 20 مايو 2016م الموافق 13 شعبان 1437هـ

من التأمُّل الذاتي إلى اكتساب المهارات من خلال تعهُّد بُنى الفكر الأساسية

«تفكَّرْ... مدخل أخَّاذ إلى الفلسفة» لبلاكبرن...

سايمن بلاكبرن
سايمن بلاكبرن

هل يمكن للفلسفة أن تكون في متناول الجميع؟ بصيغة أخرى، هل يمكن للمشتغلين بالعلوم الفلسفية أن يقودوا ثورة تتيح فهماً مبسَّطاً للمعقَّد من الأفكار والظواهر والمفاهيم وتناول القيم، من صغير الأفكار التي تكبر وسط تلك الدائرة، إلى كبيرها الذي يزداد امتداداً حين يدخل فضاء تلك العلوم، وحين يخضع إلى مباضعها وآلياتها ومناهجها وطرق نظرها؟

كتاب «تفكَّرْ... مدخل أخَّاذ إلى الفلسفة» لأستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد، ثم جامعة كامبردج، سايمن بلاكبرن، الذي عُرف في الأوساط الفكرية والفلسفية بمحاولاته وجهوده الملحوظة ذات الأثر في تبسيط الفلسفة، محاولة منه في أن تجد الفلسفة حضورها والاهتمام بالنسبة إلى غير المتخصصين، يريد أن يقول بأن الفلسفة ليست حكراً على أحد، بل يجب ألَّا تكون كذلك، إذا ما توافرت قدرة الخروج على الطرق والمناهج والآليات المُوصِّلة لها.

يركِّز بلاكبرن في كتابه الذي تصدَّى لترجمته أستاذ فلسفة العلوم في جامعة بنغازي الليبية، نجيب الحصَّادي، وصدر عن هيئة البحرين للثقافة والآثار في العام 2016، على محورية التأمل الذاتي، انطلاقاً من السؤال: كيف يتم اكتساب مهارات التفكير؟ وبالضرورة، يتضمن التفكُّر في أي سؤال تعهُّد بُنى الفكر الأساسية.

المسائل والقضايا الكبرى، كما نلمح في طرف الكتاب، مثل المعرفة والحقيقة والفكر والحرية والمصير والهوية والله والخير والعدالة «هو تفكُّر له سبل فلسفية يمكن تيسيرها، من دون تنازل عن العمق وعن دقة المقاربة والمصطلح».

الكتاب في القاعدة التي ينطلق منها، يعمل على تحقيق فهم مقارب بناء على تسلسل هنا، لابد أن يكون بالضرورة مرتبطاً بطرق الإيصال، ومدى قابلية الاستقبال. استقبال الأفكار تلك. ثم إن تلقي الفكرة ليست هي الهدف الرئيس، بقدر ما يحرص الكاتب على وضع المتلقي في صورة الطريقة التي يتم بها طرح تلك الأفكار وتناولها. في المحصلة الكبرى التي يتوخاها الكتاب، أن تحقق دعوته إلى التأمل الذاتي، الانشغال بتوق وإقبال على مسائل ترتبط بوجودنا ارتباطاً أصيلاً، مع ما يتميز به المؤلف بمنهج الطرح الذي ارتضاه، في أن ما يعرضه ويحلله من حزمة مقولات ومذاهب وأفكار ووجهات نظر، لا يمليها إملاء، ولا يجعلها ضمن الفهم النهائي بل تظل تلك التفسيرات، وما يقدمه من فهم مفتوحاً على مزيد من التفسير، ومزيد من الفهم، بتحقق الهدف الأكبر من وراء الكتاب: الذهاب إلى التأمل الذاتي بحماس الذهاب إلى قراءة عمل روائي مثلاً، أو بحماس الذهاب إلى فيلم سينمائي، مع فوارق في منافذ وطرق التوصيل.

سبل التفكير في العالم

يشير بلاكبرن إلى أنه ليست هناك مناطق خفية لا تخص سوى المتخصصين، بل أمور يتساءل بشأنها الرجال والنساء طبيعياً، وفي نظره أن كل تلك المسائل «تشكِّل سبل تفكيرنا في العالم وموضعنا فيه»، بمعنى آخر هي الخريطة في الوقت نفسه، التي تمكِّننا من تجاوز المشكلات، أو على الأقل عبورها. الانشغال بتلك المسائل تمنح صاحبها قدرة أيضاً على اكتشاف العالم من حوله كما يجب. الاكتشاف بالمعنى الذي يذهب إليه بلاكبرن، هو معرفة واستيعاب الموضع الذي نحن فيه، ودورنا، وبالتالي محاولات الفهم. وهو يشير إلى محاولات وليست محاولة واحدة، ذلك أن فهمك لمسألة اليوم، قد تتجاوزها غداً، وربما بعد أسبوع يبرز فهم آخر، وهكذا، كل ذلك يراكم محاولات، وليست محاولة واحدة، ولم يكن ذلك ليتحقق لولا أن الإنسان كان مهيَّئاً لأن يدخل في حالة تأمل ذاتي عميق. مثل تلك الأفكار، وطرق تقديمها، هي التي تمنح المتلقي لتلك الأفكار حافزاً على مثل ذلك التأمل.

من بين الإشكالات التي يطرحها المؤلف أن كلمة «فلسفة» نفسها، تحمل دلالات غير مناسبة، بمعنى أنها غير عملية «ولا تهم عالمنا، وغريبة». ضمن المداخل إلى تبسيط الفلسفة، أو محاولة تقريبها وفهمها والاندماج في حال من التأمل، يقدِّم بلاكبرن نفسه باعتباره ممارساً لما أسماه «هندسة مفهومية»، «تماماً كما أن المهندس يدرس بنْية الأشياء المادية، فإن الفيلسوف يدرس بنْية الفكر»، ومن ضمن ما يقود إلى فهم تلك البنْية، الدراية بالكيفية التي تعمل بها الأجزاء. ذلك الأجراء، أو لنسمِّها المرحلة حتى لو توافرت لمستقبل تلك الأفكار أدوات أساسية للفهم والاستيعاب، يحتاج إلى أن تقدَّم له تلك الأفكار في صيغة... لغة... أسلوب لا يذهب حدَّ الانغلاق وبالتالي التنفير، ولا يعني ذلك في الوقت نفسه، أن يتم تسطيح أو إفراغ تلك الأفكار من طبيعة الرصانة التي تحملها.

الأسئلة المتعلقة بالذات

من نمط الأسئلة التي ينتقل بينها بلاكبرن، ما هو حاضر لدى كثيرين منا، منها على سبيل المثال، تلك التي تتعلق بذواتنا، لأنها الأكثر التصاقاً بنا، وتعبِّر عن الحيرة الخاصة بنا بالضرورة: كيف لنا أن نتأكد من أن العالم يتماثل في حقيقته مع ما نحسب أنه كذلك؟ ما المعرفة، وما القدر الذي نحوزه منها؟ وغيرها. ما يثير تلك الأسئلة المحيرة بحسب بلاكبرن، هو التأمل الذاتي؛ فالكائن البشري لديه قدرة لا تكل على التأمل في ذاته.

مرحلة التأمل تلك قد تطرأ أثناء نقاش عادي جداً. لنأخذ المؤرخ على سبيل المثال، فهو يُلزَم بدرجة ما أن يتساءل عمَّا تعنيه «الموضوعية»، أو «البداهة» أو «الحقيقة» مثلاً. لا يمكن لتلك التساؤلات أن تنتهي بمجرد أنها أثيرت. يتيح ذلك للمؤرخ - ربما - إعادة النظر في كثير من ضوابط اشتغاله، والضوابط هنا لا تتعلق بالمنهج بقدر ما تتعلَّق بقدرته على النفاذ إلى ما يريد إثباته أو تأكيده.

في محاولة بلاكبرن تقريب الفكرة الأساسية، يقارن أفكارنا ومفاهيمنا بالعدسات التي نرى عبرها العالم. «في الفلسفة، العدسة نفسها هي موضع البحث»، وتظل مسألة النجاح مسألة لا يمكن تقديرها وفق ما نستنتجه أو نخلص إلى معرفته في النهاية «بل بما نستطيع القيام به حين تصبح الظروف صعبة: حين تضطرب أمواج الحجج، ويطفو الخلط والارتباك على السطح، فإن النجاح يعني حمْل ما تستتبعه الأفكار على محمل الجد».

ما يجب ملاحظته هنا، أن دفع بلاكبرن بالأمثلة التي تأتي في صيغة تساؤلات أحياناً، محاولة لتنشيط لمرحلة التأمل التي ستنتج بالضرورة عن تدافع مثل تلك التساؤلات.

التأمل نفسه لا يمكن أن تكون له محصلات ما لم يشكل مواصلة للممارسة، وهو يرى بأن ممارساتنا قد تصبح أسوأ أو أفضل بحسب قيمة تأملاتنا.

التفكير في النفْس... الدِّين

يثبِّت بلاكبرن مسألة، أن الحُجج ليست مضيعة للوقت، ذلك أنها تعرض مبادئ فكرية مهمة، يأتي ذلك تمهيداً للوقوف على نمط سائد، وهو أن البعض يرى أن التفكُّر في النفس، قريب من التفكُّر في الدِّين، وأن التفكُّر في الدِّين في نظر أولئك، واحد من أكثر انشغالات الحياة أهمية، بينما يرى آخرون أنه مجرد مضيعة للوقت.

هو يرى أن الدِّين لا يتضح بأنه مسألة صدق، أو أن الهيئات الذهنية الدينية يجب تقويمها من حيث صدقها أو كذبها، وفي حدود الممكن، قد لا يكون الدِّين مسألة اعتقادات «وقد لا تكون هذه الهيئات الذهنية اعتقادات». طريقة نظر أو فهم للدِّين كتلك ليست رائجة. ففي الوقت الذي يسلِّم الناس بالجانب العاطفي والاجتماعي، يعتبرون أنفسهم يُصدرون مزاعم محددة عن العالم، وهي بحسب تعبيره «مزاعم صادقة حرفياً، ولديهم عليها حجج وأدلة». في هذا الإطار يقف بلاكبرن على حدَّة أنسلم؟ منطلقاً فيها من قصة معلّم أغوى العديد بالذهاب إلى ساحة حيث وعدهم بأن يقدم لهم دليلاً على وجود الله. بعد أن قُدِّر لهم الاجتماع هناك، كشف بطريقة درامية عن معجم أكسفورد للغة الإنجليزية، وبيَّن أنه يتضمن كلمة «الله»، لأن الكلمة موجودة في المعجم ولها تعريف، يلزم أن يكون هناك ما يقابلها. «لا أدري كيف شعر ذلك الجمع، وإن كان أي منهم قد فكَّر في أن المعجم يذكر أيضاً سانتا كلوز والجنيَّات، على رغم أنه يستدرك على نحو مسلَّم به بأنها خرافية أو متخيلة».

من هنا يرى بأنه من المثير أن نفكر في إمكان وجود ألفاظ تحمل معنى على رغم أنه لا شيء يقابلها. ويرجع السبب في «أنك تستطيع تعريف مفهوم، لكن وجود ما يقابله مسألة مختلفة».

خلاصة

يسمِّي بلاكبرن كل الجهد الذي بذله في الكتاب بأنه محاولة لعرض «بعض المسائل الكبرى»، لكنه فعل حقيقة ولم يحاول فحسب، باستدعائه كل ما يمكن أن نتفكَّر فيه بشأن تلك المسائل، وأيضاً ما يفكِّر به الآخرون. هنالك ما أسماه التناسق بين أفكارنا والعالم، والجسر الذي نشيِّد بين الماضي والمستقبل، وفهمنا لما يشمله العالم المادي، وكيف تناسبه عقولنا «كلها مواضيع عُني بها أعظم المفكرين، ليصابوا بخيبة أمل فحسب».

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً