قبل أيام أعلن الجيش التركي أن طائرة هيلوكوبتر تابعة له تحطمت في إقليم هكاري بالقرب من الحدود العراقية التركية. وقد أدى ذلك الحادث إلى مقتل ثمانية جنود أتراك كانوا على متنها فضلاً عن طيّاريْن هما طاقمها الملاحي.
كان الاعتقاد في البداية أن عطلاً فنياً هو الذي أدّى إلى تحطم الطائرة، إلاّ أن ما ظَهَرَ لاحقاً هو أن صاروخاً من الأرض أطلقه مقاتلون أكراد تسبب في إسقاطها. وهي المرة الأولى منذ سنوات التي يحصل فيها مثل هذا الحادث، ما يَشِيْ بتطور شكل الصراع بين تركيا والانفصاليين الأكراد.
يأتي هذا الحادث وسط تزايد مواقع الصراع في جنوب تركيا بدءًا من بلدة نصيبين (جنوب شرق) القريبة من القامشلي السورية وصولاً إلى سمدنلي والمناطق المحيطة بـ ديار بكر منذ انهيار اتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين في يوليو/ تموز 2015م حيث أدّى ذلك إلى مقتل الآلاف بينهم مدنيون.
يعتقد الكثير من المراقبين أن موجة الصراع الجديدة هذه تختلف عن سابقتها التي كان أوجها في تسعينيات القرن الماضي. إذْ إن هناك عوامل جديدة ساهمت في استعار هذه المعارك. فمنذ أن أسقط الجيش التركي طائرة عسكرية روسية عبر صاروخ جو - جو بعد إقلاعها من قاعدة حميميم العسكرية السورية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بات أمام تركيا خصم جديد يمكن أن يُؤذيها.
فالروس وفي ردّ فعل مباشر على تلك الحادثة هددوا تركيا بـ خسائر تزيد عن الـ 33 مليار دولار، وحرمانها من 60 في المئة من احتياجاتها من الطاقة، لكنهم لم يُعلنوا عن سياسات أخرى قد تضرّ بـ تركيا. من تلك السياسات التي يعتقد المتابعون أن الروس ربما لجأوا لها هي توظيفهم للورقة الكردية كي يُوجعوا بها أنقرة، مستفيدين من انعدام الأمن على الحدود التركية السورية.
لقد بات على الأتراك أن يواجهوا حرباً من نوع آخر هذه المرة. فالروس ينشرون صواريخ دفاع جوي من طراز إس 400 في سورية بحجة حماية مقاتلاتهم، ما يجعل حركة الطائرات العسكرية التركية مُقيَّدة على الأقل في منطقة واسعة من الحدود المشتركة. وعلى الرغم من إعلان الجيش التركي أنه سيضرب مواقع في داخل العمق السوري إلاّ أنه صرّح أيضاً بأن تلك الغارات تستهدف مواقع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في حين أن عيونه على خصم آخر قد يراه أخطر!
ذلك الخصم هو وحدات حماية الشعب الكردي في سورية التي باتت قوة كردية ضاربة جديدة على حدود تركيا. وهذه الوحدات هي عملياً امتداد طبيعي لـ حزب العمال الكردستاني في تركيا، ما يجعل الأمر أشبه بعمليات الإسناد القومي المتبادلة التي تستقوي ببعضها ضد تركيا.
وليس مستغرباً أن نعرف بأن نصف الذين قُتِلوا في معارك عين العرب (كوباني) السورية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هم أكراد مولودون في تركيا. وهو مؤشر على غياب أيّ معنى للحدود بين البلدين (بل وحتى مع العراق) ما يجعل الصراع هذه المرة صراعاً أوسع وأكبر كونه يتعلق بطموح كردي لتوحيد الأمة الكردية في الدول الثلاث، وهو ما تخشاه تركيا بشكل جدّي أن يقع بجوارها.
لكن ما يمنع أنقرة هو أن كوابح عديدة تجعلهم يُعيدون الكثير من الحسابات قبل أن يقوموا بأي عمل عسكري موسّع. فقد أصبح الأكراد في سورية من أهم حلفاء الولايات المتحدة الأميركية وفي نفس الوقت حلفاء لـ روسيا وتحديداً في قتالهم لتنظيم الدولة والمتطرفين في المناطق ذات الغالبية الكردية على الحدود وبالقرب من الرقة، وهو ما يجعل من الصعب استهدافهم بشكل مباشر.
لقد أصبح الأكراد يسيطرون على شريط حدودي بين سورية وتركيا تزيد مساحته على 10 آلاف كيلومتر. وإذا ما استمرت سيطرة الأكراد على تلك المناطق فإن تلك الأراضي في العمق السوري قد تتصل بأراضٍ في جنوب تركيا وبالتالي يتشكل كيان كردي متكامل الأركان يهدد أمن تركيا.
إن الصراع التركي الكردي بات معقداً جداً وروافده مختلفة عن تلك التي كانت سائدة وهو ما جعل طبيعة السلاح المستخدم هذه المرة متغيّرة هي أيضاً وفقاً لظروفه الجديدة، وهو ما يحتم ضرورة البحث عن حل حقيقي يسبقه اتفاق لوقف إطلاق النار يُعزز من فرص السلام.
العدد 5004 - الخميس 19 مايو 2016م الموافق 12 شعبان 1437هـ