انتهينا في المقال السابق إلى أن اليهود تمكّنوا من التغلغل في مفاصل الدولة الإيرانية خلال حقبة الملك أَحشويرش في العصور القديمة. اليوم سنتحدث عن تقلب أحوالهم في الدول المتأخرة التي سادت بلاد فارس ابتداءً من القرن السادس عشر، معتمدين (كما في السابق) على الكثير من المصادر التي وثّقت ذلك. فقد عانى اليهود الأمرّيْن خلال عهد الدولة الصفوية نتيجة التمييز والإقصاء السياسي والديني.
لكن وبعد انهيار الدولة الصفوية ومجيء الدولة القاجارية خفَّ الضغط على اليهود. وربما كان داعم ذلك بالتحديد هو نادر الدّين شاه ومن بعده مظفر الدين شاه وبتشجيع فرنسي. ثم مع مجيء حركة فضل الله النوري المسمّاة بالمشروطة وإقرار دستور 1906م المتأثر بالمواد القانونية الغربية عاد كثير من اليهود إلى إيران، حيث سُمِحَ لهم بالتمثيل البرلماني بالضبط، كما كان يفعله العثمانيون من خلال دستور 1876م.
لكن الفترة الذهبية بالنسبة إلى اليهود هي خلال حكم السلالة البهلوية أو بالتحديد وحصراً خلال حكم الشاه محمد رضا بهلوي (1941م - 1979م) الذي سمح للوكالات اليهودية الشبابية والنسوية والثقافية والإنسانية أن تعمل في إيران، وبدأ اليهود يتبوؤون مناصب مهمّة في الدولة وفي الاقتصاد. لكن أيضاً يُسجِّل التاريخ أن يهوداً إيرانيين كُثُر هاجروا إلى إسرائيل بعد قيامها في (مايو/أيار 1948م).
وقد ذكر مأمون كيوان في كتابه عن يهود إيران أنه وفي العام 1975م كان في العاصمة طهران وحدها 12 مليونيراً من اليهود. وكان هناك 15 مصنعاً كبيراً تحت سيطرة تجار يهود، وزاد انخراطهم بعد العام 1973م في التجارة بنسبة 12 في المئة وفي المهن الحرة بنسبة 10 في المئة.
لكن هذا الوضع تغيَّر بشكل كبير بعد انتصار الثورة في إيران في (11 فبراير/شباط 1979). فقد طُرِدَ الدبلوماسيون الإسرائيليون من طهران وأغلِقت السفارة الإسرائيلية ومُنِحَت لمنظمة التحرير الفلسطينية، واستُدعِيَ الدبلوماسيون الإيرانيون من تل أبيب، وأغلِقَت مكاتب شركة الطيران الإسرائيلية (العال) في المدن الإيرانية. هذا الأمر خَلَقَ مناخاً متوتراً عند اليهود الإيرانيين فهاجر 50 ألفاً منهم بعدما كانت قد وصلت أعدادهم في إيران خلال العام 1971م إلى خمسة وثمانين ألفاً.
لكن ولأن التواجد اليهودي في الأرض الإيرانية من أقدم صور تواجد اليهود في المنطقة من العالم (الشرق الأوسط ومحط نزول الديانات)، وعلى رغم كل الضغوط والظروف والتحولات التي حصلت وخلقتها السياسة وأنظمة الحكم المتبدلة، فقد بقيت أعدادٌ كبيرة منهم في إيران حتى اليوم، حيث تُقدِّر الأرقام غير الرسمية تعدادهم إلى ما بين 30 و45 ألفاً.
وفي كل الأحوال، فإن الكتلة اليهودية في إيران هي أكبر تجمع ديني يهودي في الشرق الأوسط بعد إسرائيل. ووفقاً للديموغرافيا فإن تواجدهم التاريخي أساساً كان في أهم المناطق الإيرانية الآتية، وهي كرمنشاه وشيراز وهمدان وأصفهان وجزء في عبادان. وقبل قرن وعقدين من الآن بدأت تتبدَّل تلك الخارطة السكانية لليهود، لتصبح طهران العاصمة ويزد (وسط إيران) ومشهد (أقصى مناطق خراسان) هي المراكز الأهم لتواجد اليهود الإيرانيين. وربما كان لمكانة العاصمة طهران وتوافد يهود من العراق إليها، وأيضاً لتواجد الزرادشتيين في يزد دور في تغيّر ديموغرافيا اليهود هناك.
نأتي الآن لتشخيص علاقة اليهود الإيرانيين بالحكم القائم في طهران. الحقيقة أن ما جرى بعد الثورة من شعارات الإماتة لإسرائيل وتحرير القدس وشياع مصطلح الغدَّة السرطانية قد أنتَج لبساً في العلاقة ما بين اليهود في إيران والحكم الجديد، الذي وقع في أخطاء حقوقية ضد اليهود لديه.
لكن الحاكمين الجدد تنبهوا إلى حقيقة «إيرانية اليهود» التاريخية قبل مجيء إسرائيل حتى والتي لم يكن قد مضى عليها سوى 31 عاماً آنذاك، وأيضاً قدرة هذه الطائفة على مساعدته سياسيّاً عبر تحريك علاقتهم بالعالم لمدّه بالسلاح والمواد الأساسية خلال فترة الاضطراب، فأعادوا تقييم سياساتهم تجاه اليهود الإيرانيين وهو ما انعكس تالياً في الدستور الإيراني الذي اعترف بهم كأقلية دينية، وكان أحد أعضاء المجلس التشريعي الذي صاغ ذلك الدستور «يهوديّاً» وهو عزيز دنشراد.
لقد سُمِح لليهود في إيران بالتمثيل النيابي عبر مقعد واحد وبممارسة دينية وطقوسية أفضل. وفي مقابل ذلك سعى اليهود الإيرانيون إلى إبعاد أنفسهم عن السياسات الإسرائيلية، كي يتخلصوا من أي تبعات لذلك، وفي نفس الوقت بدأوا يُظهِرون مواقف مناصِرة للفلسطينيين.
وفي الداخل وكرسائل طمأنة للحكم الجديد شارك اليهود كجنود في الجيش الإيراني خلال الحرب مع العراق فجرت أشبه بالكيمياء بين الجانبين، ولكن ظلت العلاقة تحكمها البراغماتية. وخلال التجاذب السياسي والحزبي داخل الساحة الإيرانية بدءًا من العام 1980م بقيت ميول اليهود الإيرانيين للأحزاب الليبرالية كحركة الحرية وتالياً وبعد العام 1986م وفي منتصف التسعينات نحو الأحزاب الإصلاحية لاحقاً والتي ازدهرت خلال رئاسة محمد خاتمي.
تلك العلاقة (وإنْ كانت حذرة) جعلت بُنية وجودهم الديني في مأمن. فحسب ما تسالمت عليه أغلب المصادر فإن اليهود في إيران لديهم ثمانين كنيساً، منها 23 كنيساً في طهران، بالإضافة إلى عدد من المدارس اليهودية التي تُعلِّم بأربع لغات أساسية وهي العبرية والفارسية والعربية والإنجليزية، بالإضافة إلى مستشفى يديره اليهود ولديهم خدمة إذاعية باللغة العبرية مدة نصف ساعة يوميّاً.
الحقيقة أن بقاء اليهود في الأرض الإيرانية مرتبط بالوجدان اليهودي وتراثه الديني، سواء من حيث الأنبياء المدفونين في إيران كدانيال وحبقوق وبنيامين بن يعقوب، أو من خلال عقيدتهم التي تجعلهم ممتنين إلى أرض كُوْرَش، ولكافة القيادات اليهودية التاريخية التي ساهمت في الدفاع عن الطائفة اليهودية منذ آلاف السنين، بدءًا من أَستيرَ مردخاري وانتهاءً بشوشندخت اليهودية التي كانت زوجة للملك يزدجرد الأول، وهو ما يجعلهم متمسِّكين بأرض إيران.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5003 - الأربعاء 18 مايو 2016م الموافق 11 شعبان 1437هـ
موضوع بحث
موضوع رائع
مقال ثري بالمعلومات
شكرا من القلب
نرجو المزيد من هذه المقالات الرائعة
انفتح ..
اقول لمن يطلب من الكاتب التحدث عن الشأن المحلي، كفانا التقوقع على ذواتنا وكأنا الله لم يخلق سوانا في هذه الدنيا افتح بصيرتك واقرأ واستفد من حال الأمم ..
الى زائر رقم تسعه هناك كثر من الكتاب من يتطرقون الى مشاكل المواطن واحتياجات المواطنين يمكنك ان تقرا لهم وتضعنا ان نقرا التااريخ ومعلومات ثريه عن تاريخنا وتاريخ االامم والكاتب حر يكتب مايريده ليس ...من يملون عليه شكرا للكاتب القدير والى المزيد من معلومات مفيده
مقال رائع أستاذ محمد
ابدعت
لو تواصل البحث وتتقصى تاريخ وجودهم في الساحل الشرقي للجزيرة العربية .. سنكون لك من الشاكرين
مواضيع ذات فائدة
أخي العزيز الكاتب ، لا أعلم ما الفائدة من طرح مواضيع تاريخية طويلة لا تلامس واقعنا ...
نحن في فترة نحتاج من الكتاب المخلصين التركيز على المواضيع التي تلامس احتياجات المواطن بشكل يومي ، كما أن القارئ يتوقع طرح بعض المواضيع التي قد انشغل حديث الشارع العام بطرحها .. فإذا به يتفاجئ بطرح مواضيع بعيدة جدا عن واقعه..
لست اقول ان الموضوع عديم الفائدة، فقد تكون له فائدة لمن هو مهتم بالمواضيع التاريخية .. لكن أين هي من المواضيع الوطنية الحساسة ..
وشكرا جزيلا.. تحياتي
موضوع جيد لو تلاحظ اخ محمد بعض المذاهب خليط من اليهوديه والصفويه وادخلوها في الاسلام النقي
لو تلاحظ بعض املذاهب خليط من تقاليد الجاهلية والاموية الفرعونية
نأمل منكم التطرق الى القضايا المحلية لأن المواطنين بحاجة لطرح مشاكلها وحلها .
أحسنت أستاذ محمد على بحثك الرائع ،، معلومات قيمة تثري المعلومات الشخصية للفرد فشكراً لك
سؤال
وما الثمرة العلمية لهذا البحث ؟
معلومات تاريخية، اذا ما تحس فيها ثمار، فهذه مشكلتك . خلك على الرياضة افضل
للزائر رقم 2 أقول بان مثل هذه المقالات تزيدك فهماً لما يجري حولك وما يعيش في محيطك من ديانات ومذاهب وأقوام
حب الوطن من الايمان الانسان يحب المكان الذي عاش وتربى فيه بعيدا عن السياسات والانتمائات
الكاتب متخصص في الشأن الخارجي والأيراني تحديدا بس ملاحظة تعتبر ايران من اكثر الدول المحترمه للاقليات وطقوسهم الدينية