تقرع التطورات التقنية المتلاحقة في عالم اليوم أجراس التحذير مما ستكون عليه الأوضاع خلال 10 إلى 15 سنة قادمة في سوق العمل، ليس على المستوى المحلي فحسب بل في الأسواق الخليجية والعربية. ونظرة متفحصة قائمة على «التخيّل» المستند إلى الحقائق، تدفع إلى التساؤل: «هل نحن مستعدون؟».
لقد كان لدخول وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني تأثيرٌ كبيرٌ ومذهلٌ على الوطن العربي منذ العام 2011 ولربما قبله بعام أو عامين، حتى أن وهج انتشار الإعلام الإلكتروني فاجأ المؤسسات الأمنية، وأحدث تغيرات دراماتيكية كبرى، لا سيما في الوطن العربي، بسبب القفزة النوعية في إتقان واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، حتى بلغ الأمر إلى تغيير أنظمة بشكل غير مسبوق.
«القدرة على التواصل مع الجماهير والتأثير عليهم باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي» هو الشكل المختلف بالطبع، ولاتزال بلدان عربية كمصر، سورية، ليبيا، العراق وربما دول أخرى تعاني من تلك الانعكاسات وتفاقمها بعد مرور 5 سنوات، ما يعني أن تلك الأدوات الحديثة والذكية، هي الحاضر بكل تطوراته المذهلة، وهي المستقبل بابتكارات ستجعل ما هو مذهلٌ اليوم، مجرد «أسلوب» قديم من الماضي.
لقد ألقت الثورة التكنولوجية الحديثة بظلالها على العالم الذي غزته، وحوّلته إلى كوكب صغير تحت مسمى «العولمة»، حيث أصبح الكون قريةً صغيرةً، ينتقل خلالها الخبر من الشرق إلى الغرب في بضع ثوان، ومع تطور هذه التقنيات - وبالأخص ما يتعلق منها بتكنولوجيا الاتصال - بات من الصعب السيطرة على المعلومة أو الحدّ من انتشارها، وأحداث الربيع العربي 2011 لم يتوقعها المراقبون والمختصون، لكنهم وقفوا أمام تحوّل كبير تمكن من تغيير أنظمة بقيت ثابتة لسنين طويلة.
إذن، هل يتسنى لنا، كمسئولين عن قطاع العمل، قراءة القادم من القفزات بفعل مجتمع المعرفة وتكنولوجيا الاتصالات والإعلام الرقمي؟ في الواقع، يمكن التنبؤ بقفزات نوعية ستؤثر في قطاع العمل بشكل عام، سواءً كان ذلك في البحرين أو المنطقة العربية أم في دول العالم. وقد استشف العاملون في مجال أبحاث سوق العمل، أن السنوات القادمة ستشكل أصعب المراحل إذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار خطوات عملية من الآن تضمن من خلالها الحفاظ على العنصر البشري في مواقع العمل المختلفة، فالتقديرات الأولية تشير إلى أن التطور التكنولوجي الذي حصل في جميع المجالات، ومنها الطبي، والصناعي، والتجاري، سيترك أثراً سلبياً، حيث سيتم الاستغناء عن عدد كبير من العاملين في هذه القطاعات بحجة أن التقنية الحديثة حلّت محل الأيدي العاملة، ولن نستغرب إن وجدنا أسواقاً بدون باعة، أو مصرفاً بدون موظفين يديرون العمل، أو جهازاً إلكترونياً يجري عملية طبية لمريض.
إن العالم الآن يشهد أنجح وأصعب مراحله بفضل تلك التقنيات الحديثة، فقد أصبحت الحياة أسهل مما كانت عليه من باب سرعة الإنجاز والإتقان في الأعمال، إلا أن الخطر جرّاء فقدان العاملين لوظائفهم هو التحدي الكبير الذي يستوجب تضافر جميع الجهات من أجل الوصول إلى حلولٍ عمليةٍ ومخطّطٍ لها، تضمن الأمن للجميع. وفي هذا السياق، يمكن مناقشة الكثير من الحلول المقترحة لهذه الظاهرة نطرحها عبر سلسلة من المقالات خلال الأيام المقبلة.
لابد إذن من قراءة التوقعات، فالناس اليوم يستخدمون الأجهزة اليدوية الذكية لإنجاز أعمال كثيرة، وأصبحت برامج تلك الأجهزة تسند صاحب العمل وتغنيه عن عددٍ من العمّال، فمن خلالها يستقبل المراسلات ويحوّلها إلى الجهة المطلوبة، ويحتفظ بالوثائق والجداول والصور ويجري الحسابات، علاوةً على الكثير من المهام الممكن تنفيذها بسهولةٍ من خلال تلك الوسائط والتي كانت في السابق تقدّم على أيدي موظفين حقيقيين.
أمامنا مسألةٌ أوسع، فقد نشهد قريباً إلغاء الكثير من الوظائف التي يتطلع لها أبناء البلد ويطمحون لدراستها والتخصّص فيها، ما لم يكونوا مستعدين للتغير القادم ومدركين لأبعاده وتحوّلاته، فلن يكون هناك – على سبيل المثال- فروع للمصارف، ولن يكون هناك مكاتب أمامية أو شركات تأمين، وستندثر الكثير من الوظائف في قطاعات الخدمات المساندة للطيران، والقطاع الصحي والتعليمي، كما سيتم استبدال الكثير من الوظائف التعليمية ببرامج إلكترونية تعليمية حديثة، تتناول الدروس بشكل واضح، ويمكن إعادتها لأكثر من مرة باستخدام المؤثرات السمعية والبصرية لفهم المواد العلمية التي يقوم بدراستها الطالب، ما سيعوّض الحضور في حصص المواد العلمية، ويقلّص عدد المعلمين والمعلمات، وستلغى الكثير من الوظائف الفنية.
إن أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الذكية ستصلح نفسها بنفسها، وستتمكن من تحديد الخلل الذي أصابها بعد أن كانت تستعين بالفنيين للتصليح.
سيتم تقليص أعداد الموظفين في مجالات المراقبة والشرطة والتدقيق المروري والعديد من الوظائف التي يمكن الاستغناء عنها بكاميرات المراقبة ذات نسب خطأ أقل من أن تذكر، لدرجة تصل إلى معدلات صفرية. كما سنشهد تقليصاً للصحف المطبوعة، ومرحلة احتضارٍ لمهنةٍ عرفها التاريخ، ومنها الصحافة والكتابة والتأليف بالمفهوم الإلكتروني، فالكثير من المهن التي نتوقع أنها ستنتهي في الخمس سنوات القادمة، أو بين عشرة إلى خمسة عشر عاماً.
المنظر واضح: سيتعاظم اقتصاد المعرفة واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومنتجات التكنولوجيا، وسيتطور التعامل مع الأجهزة والبرامج الحديثة، ولن يستطيع المعلم –مثلاً- مواصلة المهنة إلا إذا كان قادراً على التعامل مع البرمجيات الحديثة، كما أن الطبيب لن يقوم بالعمليات الجراحية لوحده دون الاستعانة بالتكنولوجيا.
كل ذلك يتطلب الاستعداد المبكر والبدء في التغيير الحقيقي في مؤسسات التعليم وفي شركات الإنتاج أيضاً، بحيث نكون قادرين على التنافس والتأقلم مع المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، لأن كلفة الإنتاج سيتم مقارنتها في كل دول العالم، ولن تكون الحدود الجغرافية ولا الضرائب ولا فرض القيود على التوظيف عوامل تُنقذ سوق العمل.. فالعالم كما أسلفنا يتجه إلى نظام الكتروني موحد كبير، وكما تحوّل في السابق إلى قرية إلكترونية «كونية» بدخول الإنترنت حيث تجاوزت الجنسيات والأعراق والتحالفات، سيفرض اقتصاد المعرفة لغةً عصريةً حديثةً قد تؤثر على من ليس لديه السعة والقدرة على التحوّل للأنظمة الحديثة.
عبر التاريخ، انتهت دول وكيانات، وخلفتها دول أخرى بسبب عدم قدرة الأولى على التحوّل، واستعداد الثانية لدخول المستقبل، وذات الأمر واردٌ خلال الخمسة عشر عاماً المقبلة، حيث أن دولاً ستنهض وتنتعش، وستضمحل دول أخرى وتنتهي أو تصبح دولاً هامشية.
كل تلك الصورة، تجعلني أجد نفسي قارئاً بجدية للحقائق، وليس للتخمينات والتوقعات، فتضافر الجهود من الآن مهمٌ في كل القطاعات، للعمل سوياً على فهم التحوّلات والاستعداد لها، وربما نتطرق في مقالات قادمة لعدة محاور من أجل أن نعمل بشكل فوري وسريع، وبتخطيطٍ دقيق ومتأن، للتحوّل من اقتصاد غير قابل للنمو والتحوّل إلى اقتصاد رشيق وقادر على التأقلم مع المتغيرات، والعيش والنمو في ظل هذه المتغيرات السريعة التي تلقي بظلالها على واقعنا بشكل لا يمكن تجاوزه أو مراوغته.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الأنصاري"العدد 5003 - الأربعاء 18 مايو 2016م الموافق 11 شعبان 1437هـ
اهنئك من قلبي علي مقالك. كلمني بعد عشر سنوات. ستجد المسؤول يقول: سمعت. بالتغييرات بس ما تصورنا الأزمة كبيرة اليً هذه الدرجة.
تحياتي للدكتور محمد الانصاري الذي بذل جهود استثنائية بمعيّة سعادة وزير العمل لإعادة المفصولين للعمل.