قبل سنوات أثار استغراب الكثيرين، خبرٌ نشرته الصحف عن موظف خليجي اقتطع عدة آلاف من مكافأة نهاية الخدمة التي حصل عليها عند تقاعده عن العمل بعد سنوات عمل طويلة وأعادها لمؤسسته. وفسّر هذا الموظف المتقاعد تصرفه الغريب بأنه من أجل «تنقية ذمته» من أية أموال قد يكون استغلها دون قصد، ودون حقّ له فيها، وفي أي صورة كانت أثناء عمله في هذه المؤسسة. وكان يقصد بذلك قيامه باتصالات شخصية من هاتف المكتب، أو استخدام أوراق وأقلام وأجهزة المؤسسة، أو ربما وقت المؤسسة الذي يتقاضى لقاءه أجره، في إنجاز أعمال خاصة به.
تبدو هذه القصة أقرب إلى مثالية الخيال منها إلى الواقع. وربما يكون هناك من هم مثل هذا الرجل لكنهم يفعلون ذلك سراً ولم تتسن لهم هذه التغطية الإعلامية التي حظي بها ذلك الرجل. وقد يكون هناك من تنبههم قيمهم لإحساسٍ بالذنب حيال تصرف لا يطمئنون لنزاهته تجاه أموال المؤسسة؛ لكن يتساهلون في الأمر لعدم وجود الرقيب الخارجي الذي يتحد مع تلك القيم الداخلية ويتخذ خطوة تمنعهم من ذلك.
الاستغراب الكبير من نزاهة الرجل التي ربما وجدها البعض سذاجة، هو ناتج من أن هناك الكثير من الممارسات المنافية للقيم باتت سائدةً إلى الدرجة التي اعتُبرت معها مقبولة، حتى بات من يحاول الخروج على السائد الخطأ إلى النادر الصحيح، كمن يستعرض تصرفات يودّ من ورائها إظهار تفوق أخلاقي اصطناعي يميّزه عن الآخرين.
إحدى إدارات الموارد البشرية في مؤسسة حكومية انتبهت إلى أن بعض الموظفين ينهون إجازاتهم السنوية يوم الأربعاء ويتبعونها بإجازة مرضية ليوم الخميس، على رغم أنهم يقدّمون طلبات الإجازة قبل فترة طويلة وأحياناً تكون الإجازة بغرض السفر والسياحة. كما أنه لم يعد أمراً غريباً استغلال طابعات المؤسسات لطباعة واجبات الأبناء بدلاً من دفع قيمة الطباعة نظير طباعتها في المكتبات المخصّصة لذلك. البعض يستغل هاتف المكتب دائماً بدلاً من الهاتف النقال لإجراء مكالماته الخاصة، فيما يبالغ البعض، خصوصاً في السنوات الأخيرة، في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والقائمة تطول لتحمل المؤسسة تكاليف ليس هي من ضمن تكاليف الإنتاج الحقيقي، ما دعا بعض المؤسسات لمحاصرة مسألة الإجازات المرضية التي يعتبرها بعض الموظفين حقاً لهم ويحرصون على الاستفادة منه حتى بدون تعرضهم لأي عارض صحي يضطرهم للتغيّب عن العمل، وبالتالي استحقاق هذه الإجازة المرضية. جميع هذه التصرفات هي استغلال يقترب في معناه الحقيقي بالسلوك من مدّ اليد لما ليس للموظف فيه حق.
في الأحاديث بين الموظفين لا تُرى أي مخالفة في استخدام موارد المؤسسة بحجة أن كلفة ما يُستخدم من قبلهم صغيرة ولا تقارن بـ «استغلال» أكبر للمناصب والموارد بأشكال مختلفة من موظفين في مراتب أعلى، فيما يرى البعض خصوصاً العاملين في الوزارات الحكومية، أن أموال الحكومة هي أموال مشاعة للجميع، ولا ضير من الاستفادة منها من خلال مواقع العمل التي يعملون فيها. بينما يذهب كثيرون في تبريرهم لأي استغلال بأنه انتقام من المؤسسة التي لا تنصفهم في حقوقهم.
خبير الإنتاجية البحريني، أكبر جعفري، لا يتحرّج من طفولته وسنوات صباه البائسة التي أوصلته إلى ما يعتز به حالياً في نفسه، فيصفّ نفسه دائماً في خانة العمّال، ويرى نفسه عاملاً في بدلة مدير، ويقول إنه قبل الحكم على أفعال الموظف الصغير في المؤسسة، يضع نفسه في حذائه ويبحث فيما دفعه لعمل أي تصرفات مخالفة لقيم المؤسسة أو حتى القيم العامة. ويخلص إلى أن الموظف هو انعكاس للمؤسسة فمتى ما شعر بالاستقرار والاحترام فيها كلما قل استغلاله لموارد المؤسسة في الخفاء، إما بغرض الاستفادة أو إيقاع الضرر بها، كما أن الموظف يسعى دائماً وبشتى الطرق، لنيل حقوقه إذا لم يتسن له ذلك، ودلّل على ذلك بقيامه، عندما كان طفلاً عاملاً لدى رب عمل قاس، في أحد المصانع يحرم العمال من فترات الراحة، بحشر جسم صلب في الآلة التي كان يشغَلها ليُجبر صاحب العمل على فترة الراحة التي هو بحاجة إليها.
حتى في أكثر المؤسسات صرامةً في أنظمة الرقابة على أموالها وممتلكاتها، توجد مساحة متروكة لضمير الموظفين وقيمهم الداخلية لتؤدي دور الرقابة الأدق، وتعريف الموظفين هنا هو أنهم كل من يتقاضى راتباً من المؤسسة نظير خدمات يقوم بها من رأس الهيكل الوظيفي وحتى أصغر العاملين فيها. هذه المساحة إما أن تتيحها الثغرات في الأنظمة والقوانين، وإما أن تكون قد تُركت عمداً لتكون هامشاً من الثقة والحرية تمنحه المؤسسات المتحضرة التي بنت تحضرها الإنساني هذا مع الزمن،
وفي هذا الهامش الذي يكبر ويصغر بحسب المسمى للوظيفة وأهميتها ومدى سلطتها في المؤسسة، يكون كل موظف هو مدير نفسه والرقيب عليها، ولابد من أن يكون مؤتَمناً على أموال في صورها المختلفة. وتقع المسئولية الكبرى على موظفي المناصب العليا الذين يجب أن يكونوا قدوةً نموذجيةً لمن دونهم في المستوى الوظيفي، وبحسب جعفري فإن غالبية سوء الاستغلال للوظيفة في المؤسسات يتفشّى من الأعلى إلى الأسفل. وفي حين تبدو الرقابة في مؤسسات القطاع الخاص أكثر صرامةً لكونها مشاريع تعود لأشخاص ومؤسسات، فإنها أكثر ليونةً في القطاع العام على رغم أن الضرر الذي يتسبب فيه الاستغلال لا يؤثر في المؤسسة فحسب وإنما يتضرر منه المجتمع بكامله، لكون مؤسسات الحكومة هي مؤسسات تنفق على خدمات تُقدّم للمجتمع بشكل عام.
وبين جعفري الذي انحاز للموظف بشكل كبير، وحمّل المؤسسات مسئولية بناء ثقافة الاحترام المتبادل والنزاهة بين موظفيها، والقيم الشخصية والمهنية التي على الموظفين التحلي بها، وبين نزاهة الرجل الذي تحدى السائد من التصرفات الاستغلالية، تبقى أهمية الفرملة وإعادة تسمية «الاستغلال البريء» لموارد المؤسسات إما عمداً أو جهلاً، باسمه الصحيح والإقلاع عنه إلى ممارسات أقرب إلى المعنى الحقيقي للقيم وليس السائد. ذلك للمساهمة في حفظ المال العام وخلق جيل مسئول بالإضافة إلى نشر ثقافة النزاهة.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 5002 - الثلثاء 17 مايو 2016م الموافق 10 شعبان 1437هـ
للاسف هذا واقع بعض الموظفين وهذا يعود بشكل كبير لاصحاب القرار من مدراء و مسؤلين و الى اخلاق وثقافة الموظفين فإذا كان الاساس غير صيحيح فكل شي يبنى بشكل غير صحيح يجب تعديل من فوق ال اسفل و يحاسب الكبير قبل الصغير ويكون هناك احترام متبدال و تقدير لمجهود الموظفين و المسؤلين و ليس على دافع الواسطات و المحسوبية و الصداقة و المجاملات يجب ان ياخذ الموظف حقه من اجتهاده و اخلاصه في العمل فكل مرة يكافئ فيها موظف لا يستحق المكافة ويتم ظلم موظفين اخرين من شأن هذا ان يفسد جودة العمل و بتالي تتأثر الموسسة .
موضوع جميل و حساس ولكنه ليس في زمانه! فالناس كلما صاروا مضغوطين تحت سطوة الحاجة، كلما برّروا لأنفسهم مثل تلك التصرفات و "السرقات" و الحق ان إدارة الشركة او المؤسسة هي من تدفع الموظف والعامل لأن يتحايل و "يختلس" عندما لا تعطيه حقه و تهينه، رغم انه ليس عذرا مقبولا ، الحمدلله اعرف من كان تحت يديه قرطاسية شركة بمصنعها ومع ذلك كان يذهب لكي يشحن شريط طابعة منزله ولا يفكر ان يأخذ شيء مما تحت يده، الوازع الديني والأخلاقي اهم من القانون والشرطي الخفي .. الورع والقناعة هما الضمانة .. الف تحية لك ..
الموظف النزيه المخلص الذي يخاف من الله يكون منبوذ مع الاسف من قبل المسؤولين ويتم ظلمه وهضم حقه وهذا واقع مايزال يحصل وسيستمر مع الاسف طالما يوجد الظالمون وعديمي الكفاءة لتولي المسؤولية والمنصب.