العدد 5001 - الإثنين 16 مايو 2016م الموافق 09 شعبان 1437هـ

رؤية تذكِّر بمنظوريْن تاريخي وشرعي أن الإسلام والتعذيب على طرفي نقيض

«تاريخ التعذيب وأصول تحريمه في الإسلام» لمجموعة من الباحثين...

فيوليت داغر - عباس عروة
فيوليت داغر - عباس عروة

ينضم كتاب «تاريخ التعذيب وأصول تحريمه في الإسلام» الذي وضعه كل من: محمد بن طارية، عباس عروة، ويوسف بجاري، والصادر في العام 2003، عن مركز الراية للتنمية الفكرية، إلى مجموعة من الإصدارات في هذا الحقل، تعيد تأكيد - من خلال منظورين تاريخي وشرعي - أن الإسلام والتعذيب على طرفي نقيض من خلال فصلين، يتناول الأول المنظور التاريخي، فيما يتناول الثاني المنظور الشرعي.

الكتاب فيه نظرة وفهم من وحي التجارب والممارسات التي يتم إسقاطها على الواقع، مع استدعاء للنصوص التي وقفت موقفاً صريحاً من ممارسة التعذيب التي باتت إحدى الأدوات والآليات، تاريخاً، وحاضراً، ويبدو أنها ستظل كذلك مستقبلاً، التي تعزِّز مكانة سلطة ما، من خلال استثمار الجسد وإخضاعه لكل صنوف التعذيب والقهر الذي يضمن وثيقة اعتراف شفهي أولاً، وصولاً على تدوين ذلك الاعتراف.

أتيح للمؤلفين الثلاثة بحكم معرفتهم وسبرهم أغوار جوانب من الثقافة العالمية، إضافة على إحاطتهم بالثقافة العربية والإسلامية، الخروج بأفكار تقرِّب الفهم وتؤكِّد أن الإسلام والتعذيب على طرفي نقيض، انطلاقاً من احترام الإسلام لسلامة النفس والجسد.

ويتبيَّن من مقدمة الكتاب أن المقاربة المقدمة فيه، تميز بين تعاليم الإسلام، وممارسات الأنظمة التي تزعم تجسيدها «كما تميز المزج بين الإسلام وأنظمة الحكم لتبرير أو إنكار ممارسات التعذيب من المزج بينهم للإدِّعاء أن الإسلام دين وحشي يعادي الإنسان».

اتفاقية مناهضة التعذيب

فيوليت داغر، والتي كانت رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان في العام 2003، كتبت هي الأخرى تقديماً للكتاب، وتناولت التعذيب من زاوية حقوقية، انطلاقاً من اتفاقية مناهضة التعذيب التي صادقت عليها في ذلك الوقت 123 دولة من مجموع 192 دولة (الرقم في ازدياد منذ العام 2003 وحتى 2016)، إلا أن المجلس العالمي لرد اعتبار حقوق ضحايا التعذيب أحصى أكثر من 100 دولة تمارس التعذيب بانتظام، من بينها دول صدَّقت على الاتفاقية.

داغر تشير في مقدمتها إلى أن عدداً كبيراً من البلدان التي تمارس التعذيب وقتها واليوم «عانت كثيراً من التعذيب في عهد الاستعمار الأوروبي، وكانت شعوبها تأمل في استئصال هذه الممارسة الوحشية بعد الاستقلال، ولكن سرعان ما خُيِّبت الآمال، واحتازت النخب الحاكمة على هذه الممارسة القمعية وكيَّفتها لاضطهاد منتقديها (...)».

مقدمة الكتاب الرئيسة، لفتت إلى دواعي وضرورة الدراسة، بسبب استيطان ممارسة التعذيب في العالمين العربي والإسلامي «وكذا تفاقم هذه الظاهرة حيث أصبح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكبر إقليم مستورد لعتاد التعذيب»، من بينها أسلحة الصعق الكهربائي «وتكنولوجيا التحكُّم السياسي».

يأتي الكتاب ضمن الجهود التي تبذلها حركات مناهضة التعذيب في المنطقة العربية والإسلامية. وتقدِّم المقاربة التاريخية للكتاب فهماً للظروف التي يظهر فيها التعذيب «والنظاميات التي تميِّز نموه ومقاصده وأشكاله وإدارته»، بحسب المؤلفين.

في الكتاب تناول لتاريخ التعذيب ما قبل الاستعمار، وفي ظله، وصولاً إلى مرحلة قيام ما يسمى «الدولة الوطنية»، التي لم تنأ كثيراً عن الممارسة، ولم تستأصلها، بل على العكس من ذلك، إذ تؤكد الأدبيات والتقارير والممارسة الحية على الأرض، أن التجربة في تغوُّل وامتداد بحيث أصبحت ممنهجة.

التعذيب في الأمم والحضارات

يتناول الجزء الأول من الكتاب التعذيب في الحضارات القديمة، وفي جزء منه، تعذيب الأنبياء والصالحين، ويسلط جزء آخر على رواج التعذيب في المجتمع المسيحي، وآخر يستكشف رواجه في المجتمع الإسلامي، مروراً إلى انتشار التعذيب في المجتمع المعاصر، وصولاً إلى خلاصة عرض تاريخي لظاهرة التعذيب.

التعذيب قديم قدم الإنسان، وتجمع الدراسات التاريخية في هذا المجال ألَّا مجتمع يخلو من تلك الظاهرة المقيتة، بدءاً بالآشوريين بقتل أسراهم بإجلاسهم إلى خازوق وقطع الأيدي والأرجل، مروراً بالمصريين القدامى، وتحديداً فترة رمسيس الثاني، لمعرفة نوايا أعدائه خلال الغزو الحثِّي، ولم يكن اليونانيون بمنأى عن التعذيب، وكان يمثل أحياناً أداة قضائية، بهدف انتزاع إقرار المتهم، وعلينا أن نعرف أن الإغريق كانوا يعذبون العبيد الذين لا مكان لهم من الاعتراف بإنسانيتهم. بعض الفلاسفة الإغريق كانوا يساندون ويعزِّزون تلك الممارسات الفظيعة، وكانت مقبولة عندهم. هو ليكورق في مرافعته ضد ليو كرات «الذي اتهم بالخيانة عند هزيمة شيروني، يخاطب القضاة قائلاً: أيها السادة القضاة، من منكم يجهل أنه في الحالات المثيرة للجدل إذا كان العبد أو الخدم على علم بالوقائع يكون من قمة العدل والديمقراطية أن يتم استنطاقهم وعرضهم على التعذيب».

وللرومان ممارساتهم الفظيعة في هذا المجال، من بينها تشريب كمية هائلة من النبيذ والشد الموجع على المثانة، والضرب بالسياط المثقلة بمعدن الرصاص، خلع المفاصل، والنشر بواسطة المنشار، ورمي المتهم إلى السباع الضارية.

كما يتناول الكتاب صوراً مجملة من تعذيب الأنبياء والصالحين، ممن تم ذكرهم في القرآن الكريم، وصولاً على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وما لاقاه من صنوف الأذى، وكذلك أصحابه، من خباب بن الأرت، وعمار بن ياسر وأبيه ياسر وأمه سمية، وكذلك أبوذر الغفاري، وخبيب بن عدي، وحبيب بن زيد الأنصاري «وكان عم الزبير بن العوام قد علَّق أخاه في حصير ويدخن عليه بالنار وهو يقول له (ارجع إلى الكفر)، وعدد من الصحابة.

أساليب... أدوات

ناهضت الكنيسة بداية التعذيب «لقرب عهدها بما لقيه المسيحيون الأوائل من أذى شديد من طرف الأباطرة الرومان»، إلا أنه لم تمر قرون حتى اتجهت الكنيسة اتجاهاً مغايراً لموقفها الأول. وجاء تبرير الكنيسة عاراً لوحده، من أنها لا تلجأ إلى التعذيب للحصول على اعتراف من المتهم بل من أجل تقصي «القول الإلهي»، فالله سينقذ المتهم من العذاب إذا كان بريئاًّ!

من بين ملوك تلك الفترة تميز نيكولاس الأول الذي اعتبر التعذيب «جريمة مزدوجة لأنه يؤدي بمن يقع عليه إلى الكذب ويعرضه إلى الألم بلا جدوى»، ويكفي الوقوف على رسالته التي بعثها إلى أمير بلغاريا بوريس، لتبيان رؤيته التي اتخذت منحى عقلياً يضع الممارسين للتعذيب في خانة الإجرام.

يقف الكتاب على فترة القرن الثالث عشر، وفيه اتخذت ظاهرة التعذيب أبعاداً خطيرة ومتصاعدة، بالدستور الذي أصدره البابا سينيبالدوفيشي (البريء الرابع)، وكان ذلك لقبه، في العام 1252، وفيه «شرَّع اللجوء إلى التعذيب أثناء التحقيق»، ليتبعه بعد ذلك كل من البابا رينالدو سيغني، وفي عهده أباح في العام 1259 «لرجال التحقيق تعذيب المتهمين»، وخلفه البابا كليمونت الرابع، الذي لم يحد عن سلفه. من دون أن ننسى الأساليب التي لجأت إليها محاكم التفتيش الرهيبة، والفظاعات التي ارتكبتها، ومما لجأت إليه: «الإحراق بالنار، الدفن حيا، سمْل العيون، سحب الأظافر، سل الألسنة، قلع الأثداء، فسخ الفك، خلع الأطراف، تمزيق الأرجل، سحق العظام، التعذيب بالماء سقياً وتقطيراً، التعذيب بالجاروكا (وهو عبارة عن ربط يدي المتهم وراء ظهره وربطه بحبل حول راحتيه وبطنه, ورفعه وخفضه معلقاً؛ سواء بمفرده أو مع أثقال تُربط معه)، التعذيب بالأسياخ وقوالب الحديد المحمَّاة».

وبالنسبة إلى الآلات فمن بينها: أسواط بها قطع من الحديد الشائك، كلاليب لانتزاع اللحم من العظم، قدور من الحديد لصهر الرصاص وصبِّه على المُعذَّبين، قدور لغلي الزيت والماء وصبِّه على المُعذَّبين، دواليب وسحَّابات ذات مسامير حادة لتمزيق الأجساد (...) وغيرها من الآلات.

التعذيب في المجتمع الإسلامي

وضمن المنظور التاريخي، واستناداً على المراجع، فإن «ظاهرة التعذيب في وسط المجتمع الإسلامي نشأت في عهد بني أمية، وتنامت في عهد بني العباس»، دون أن يعني ذلك أن الأصقاع الإسلامية كانت بمنأى عنها، بل امتدت من شرقها الأقصى في الهند، إلى غربها الأقصى في الأندلس.

ويحصي الكتاب عدداً من الشواهد من أمهات الكتب والمراجع التاريخية، لصور التعذيب التي حدثت في عصر الدولتين، وأمثلة منتقاة، وصولاً إلى التعذيب المنهجي في العصر الحديث في عدد من البلدان العربية والإسلامية، استناداً إلى تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية التي لم تُتح لها فرصة التواجد على الأرض أساساً لاعتبارات لا تخفى على أحد.

يخلص هذا الباب، بالنسبة إلى الجانب التاريخي، ومن خلال إحصاء الحالات التي وثَّقتها المراجع، وتحديداً تلك التي حدثت ما بين القرن الأول والقرن الثالث عشر للهجرة إلى أن «مقاصد التعذيب شملت معاقبة المعارضين السياسيين، وإرهاب المجتمع والتعسف في حق الرعية وكذا جمع المعلومات»، ويشير المؤلفون إلى أن الغرضين الرئيسيين تمثلا في معاقبة المعارضة وإرهاب المجتمع وهما يخصَّان معاً أكثر من ثلثي حالات التعذيب التي تم اعتبارها.

أصول تحريم التعذيب في الإسلام

يوضح الكتاب بأن الشارع راعى في معاقبة الجناة عوامل كثيرة، في مقدمتها لزوم العدل «وعدم اتباع الأهواء والنزوات»، إذ لا يعاقب أحد إلا بعد إدانته، ولا تتجاوز العقوبة القدر المحدد شرعاً مهما كان غيظ المعاقب أو بغضه للجاني، التفاتاً إلى الهدف من العقوبة التي ترمي إلى الردع، وإصلاح الحال، ولا تهدف إلى التعذيب والتنكيل والحط من الكرامة الإنسانية.

كل الدلائل الشرعية تشير بوضوح على تحريم التعذيب، وإن كان بعض العلماء جوَّز للأمير - لا القاضي - مع قوة التهمة، ضرب المتهم، على أن يكون ضرب تعزير لا ضرب حد «ليأخذه بالصدق عن حاله فيما قرف به واتهم»، كما ذكر الماوردي.

ويبيِّن الكتاب موقف العلماء المعاصرين من التعذيب، ومنه ما صدر عن البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام، ضمن المؤتمر الإسلامي العالمي الذي عقد في باريس في 19 سبتمبر/ أيلول 1981، وتحديداً في الفقرة السابعة منه، المتعلقة بحق الحماية من التعذيب: «لا يجوز تعذيب المجرم فضلاً عن المتهم (...)، كما لا يجوز حمل الشخص على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها، وكل ما ينتزع بوسائل الإكراه باطل (...) مهما كانت جريمة الفرد، فكيفما كانت عقوبتها المقدرة شرعاً، فإن إنسانيته، وكرامته الآدمية تظل مصونة».

كما يوضح الكتاب حرمة إتلاف جسد الإنسان، وأن هذه الحرمة هي عصمة وسياج يحمي به الإسلام الإنسان من أي اعتداء على جسده وعقله، ومن ثم فإن في العواقب الجسدية للتعذيب منكر كبير.

خصص المفصل الثاني من الكتاب أيضاً دراسة لطبيعة التعذيب في ميزان الشرع، مستعرضاً الأدلة الأساسية التي «تُحجِّج تحريم التعذيب»، حيث أكثرها مبنية على أساس الإكراه الذي يعتبر الطبيعة المميزة للتعذيب.

كما ناقش موقف التشريع الجنائي الإسلامي من التعذيب على أساس عواقبه، بدلاً من طبيعته. وكذلك الحكم الشرعي من باب مقاصد التعذيب، بدلاً من عواقبه، وأهمها حمل المتهم على الإقرار، وجمع المعلومات، وغرس ونشر الرعب في المجتمع للتحكُّم فيه. ملتفتاً الكتاب في أحد أجزائه إلى الأمور العملية، بالتركيز على حكم تعويض ضحايا التعذيب، كما يعرض القواعد الإسلامية للوقاية من التعذيب.

ويُبرز الكتاب في خلاصته وخاتمته، ضمن ما يُبرز، ضرورة تفعيل التشريع المناهض للتعذيب، وأن تطبيق ذلك البرنامج الشامل يستوجب المشاركة الملتزمة لكل شرائح المجتمع. وإن للمثقفين والحقوقيين ورجال الإعلام دور مهم في تنوير المجتمع وموازنة السلطة والتصدي لتعسفها.

فوكو... «المراقبة والعقاب»

الفيلسوف والسوسيولوجي الفرنسي ميشيل فوكو، أصدر كتابه «المراقبة والعقاب» في العام 1975، وعمل من خلاله على تقصِّي الآليات الاجتماعية في تبدِّي الاختلاف بين أنظمة العقاب في العصر الحديث. وربما يعد كتابه المذكور من أهم المراجع التي ذهبت إلى ما بعد تناول ظاهرة التعذيب، بذلك التحليل الاستقصائي المكثف، ضمن الآليات التي تمت الإشارة إليها في المطلع.

تمخَّضت عن الثقافة الغربية فلسفات متحركة، وأحياناً انقلابية على نفسها، توخَّت الوقوف على فهم عميق بالتأصيل الذي حققه عدد من الباحثين الاجتماعيين والفلاسفة في علاج وتناول هذه الظاهرة الممعنة في فظاعتها.

في بعض التناولات تلك، كان الجسد بمثابة وثيقة اعتراف في المآلات النهائية لتلك الممارسة والهدف منها.

يحيلنا فوكو على العقاب أو التعذيب باعتباره استثماراً للجسد. تركيز الألم يحقق بطريقة ما نتيجة هو الاعتراف بالذنب، وتلك هي خلاصة تلك الممارسة السادية، سعياً وراء الوصول إلى البرهان الشفوي الذي يأتي في شكل اعتراف. برهان الإدانة.

الباحث العراقي مظهر محمد صالح، في وقوفه على كتاب فوكو، يتاخم ذلك المعنى والمفهوم، فالتعذيب عند (فوكو) «لا يتجاوز كونه مراسم وطقوس وعملية تدوينٍ لجسد المعذَّب، بغية الحصول على الاعتراف بالجريمة. لذا فإن الاعتراف هو القطعة الأساسية من عملية التعذيب ومن أجلها يمارس التنكيل والتعذيب بمختلف أشكاله، ولكونه يُؤمِّن اقتران البرهان المكتوب بالبرهان الشفوي في شكل اعتراف».

ولا ينأى الباحث والكاتب التونسي لعروسي لسمر عن استجلاء ذلك الفهم والنتيجة، بإشارته إلى تميّز نظرة فوكو إلى العقاب «بدمج الظاهرة العقابية ضمن تكنولوجيا السلطة الهادفة إلى استثمار الجسد وإخضاعه واستثماره سلطوياً. ويهدف ذلك إلى إنتاج علاقات التفاوت والسيطرة، فالعقاب ليس ظاهرة قانونية منفصلة عن بعدها السياسي، بل هو شكل من أشكال تجلي السلطة».

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً