ثمانية وعشرون عاماً، ومجلة «شئون أدبية»، تواصل تقديم إضاءات وعلامات ملفتة في مسيرة الدوريات الثقافية، وخصوصاً تلك التي تصدر عن اتحادات الكتَّاب والأدباء في عالمنا العربي. أقول تقدم إضاءات وعلامات ملفتة بتوليفة الذين يقرؤون النصوص ويجيزونها، والآلية المُتبعة في ذلك. أقول ذلك وأنا أحد الذين شهدوا ولادتها الأولى، واطلعوا بدور في تأسيسها؛ علاوة على عضويتي في هيئة تحريرها لسنوات.
ثمانية وعشرون عاماً، لم تنجرَّ إلى وهَن أو تستسلم لضمور وركاكة هنا وهناك. منذ العدد الأول وإلى اليوم، وهي في تجاوز لما حققت وأنجزت وأبرزت وقدَّمت من أسماء أصبحت اليوم تحتل مكانة يُعتدُّ بها في المشهد الثقافي والإبداعي العربي.
العدد الثاني والسبعون (شتاء 2016)، بما احتواه من مواد رصينة، تضمَّن ملفاً خاصاً عن تجربة الشاعر الإماراتي حبيب الصايغ، وإن جاء الملف متأخراً - ربما لسنوات - لكن تظل مناسبته مقنعة وذات أهمية، في كون الرجل أول إماراتي يحوز جائزة الشاعر الراحل سلطان بن علي العويس الثقافية في حقل الشعر، إضافة إلى أنه أول إماراتي يتسنَّم منصب الأمين العام لاتحاد الكتَّاب والأدباء العرب. أعدَّ الملف المسرحي والقاص العراقي عبدالإله عبدالقادر، وشارك فيه كل من: الشاعر والناقد الإماراتي محمد نورالدين، والباحث المصري الأكاديمي صديق محمد جوهر، والباحثة والناقدة المصرية اعتدال عثمان، والناقدة والأكاديمية العراقية وجدان الصايغ، والناقد والشاعر الفلسطيني سامح كعوش. كما تضمَّن الملف نماذج من نصوص الصايغ التي تمثل تجربته المتنوعة، وانفتاحه على الأشكال الشعرية.
تناول المسرحي والقاص عبدالإله عبدالقادر في إعداده للملف جوانب وإضاءات من حضور وأهمية الصايغ في المشهد الشعري الإماراتي والخليجي والعربي، مشيراً إلى أنه يعد من الحلقة الثانية «تقريباً من شعراء الإمارات المتميزين»، وهو من جيل خرج من عباءة الرواد الكلاسيكيين الأوائل: سالم بن علي العويس، خلفان بن مصبّح، صقر القاسمي، وسلطان بن علي العويس.
ما يميز تجربة الصايغ عن مجايليه ومن سبقوه، أنه انفتح على كل الأشكال الشعرية، من الكلاسيكية والتفعيلة، والنص الحديث، وقدرته على المزاوجة بينها. هو صاحب التكثيف في الصورة، والذهاب في ابتكارها بتلك المزاوجة اللغوية الرصينة من جهة، والسلسة المكتنزة بحساسيتها من جهة أخرى.
في إشكال التسويق
محمد نورالدين في ورقته «حبيب الصايغ بمناسبة منحه جائزة العويس»، اتخذ ما يشبه المفارقة مدخلاً في جانب من الورقة، أو ما يُراد له أن يكون مفارقة، بينما الواقع المتراكم يشير من دون أي متطلبات للمحاججة أن الشعراء الكبار في التاريخ العربي، كانوا من نبت هذه الأرض، وأبناء هذه الجغرافية التي كانت في أقصى المجهول بالنسبة إلى حواضر عربية في تلك الفترة من التاريخ، ولكن إذا سلمنا بالمفارقة التي يشير إليها نورالدين، فهي تكرر نفسها اليوم بالتقلبات الحاصلة في هذا الجزء من العالم، وغيره من العوالم أيضاً. بالعودة إلى ما يراه مفارقة، يقول: «من منظوري الشخصي، ولادة شاعر بهذا الحجم في أقصى المشرق العربي، أثر سلبي في تسويق هذه التجربة الشعرية». فالمسالة تكمن في التسويق! وهنا محط الإشكال الذي تورَّطت فيه منابر عربية لم تسلم من الفخ القطري والقومي، ولو على حساب القيمة التي يحملها بعض الذين سوَّق لهم في مناحي الأرض، إهمالاً وتهميشاً لأصوات عالية في قيمتها ونبرتها الإبداعية التي ظلت مُغيبة وغير ذات شأن بالنسبة لبعض تلك المنابر. ويضيف نورالدين «ولكن استطاع حبيب الصايغ أن يوصل صوته الشعري لدرجة أن الشاعر الكبير نزار قباني سأل عنه حينما زار الإمارات لإحياء أمسياته الشعرية». والاستشهاد هنا لا يخلو من سطحية لتثبيت أهمية ودور الصايغ في نقل النص والقفز به من إطار المحلية إلى أفق عربي أرحب.
«إضاءات بانورامية على إبداعات حبيب الصايغ الشعرية» ورقة صديق جوهر، تناول فيها ما أسماه «الصوت» الذي يعبِّر عن «الوعي الجمعي»، مشيراً إلى أن «الصوت الشعري لحبيب الصايغ على مدار مسيرته الشعرية لم يكن ذات يوم معبِّراً عن العشيرة أو بوقاً من أبواق القبيلة، ولم يكن الشاعر في أي وقت متحدثاً جهوياً، ولم يكن الشاعر مدَّاحاً أو هجَّاء أو حاملاً للمباخر ولكنه كان صوتاً معبِّراً عن الوعي الجمعي الإماراتي (...)».
في حضور الغائب... كروفة
في كتابة التداعيات/ قرينة السيرة، يكتب الشاعر والقاص الإماراتي عبدالله محمد السبب في «حضور الغائب»: «علي عبيد كروفة... الكرة، الخشبة، وخالدات الطريق». هل أستطيع القول، إن عبدالله السبب هو من أكثر الذين عزَّزوا وفاءهم في كتابة الغياب. أكثر الأصدقاء وفاء في حضور أصدقائه، وأكثرهم وفاء حين يستدعيهم الغياب، ليعزِّز حضورهم ويؤكد عدم مبارحتهم المكان. عن رحيل كروفة يكتب، إثر نوبة قلبية. صاحب امتياز الابتسامة التي لا تفارقه. من مسرح الحياة... مسرح طفولته... ومسرح أشبال نادي عُمان، إلى المسرح الذي نعرف، حيث مارس أدواراً نابضة بالحيوية والقيمة وكنوز المعنى. يستحضر السبب ما كتبه الشاعر أحمد العسم «علي كروفة، هذا الشاحن للحياة حيوية ونشاطاً، علي كروفة، هذا الباسم ذو اللمعان في الصدق والروح. علي كروفة، هذا الذي كتفه هموم الناس، حين يغيب، لا تقرأ إلا روحه، وحين يحضر، لابد وأن تفرش له سجادة الروح (...)».
في باب الشعر، حفل العدد بنصوص كل من: حمدة خميس: «إذا ما قلتُ لا أدري فلا تغضب»، جعفر الجمري: «عن لوز إخوتنا وصبَّار العدوِّ»، أمل إسماعيل: «سيرة النمل»، إبراهيم الهاشمي: «كن»، عبدالله الهدية: «هذا سر مشكلتي»، شهاب غانم: «علِّميني صبراً»، إبراهيم المصري: «معرض متحرك للجثث»، وهاشم المعلم: «شجرة».
وفي باب القصص، جاءت مشاركات كل من: حارب الظاهري: «العازف»، انتصار السري: «قصتان»، أميرة الوصيف: «تسعة بؤساء ومنتحر»، مينة قسيري: ابنة من أنت»، وإبراهيم مبارك: «عبور جثة الخور».
تجليات الرجولة
وفي الترجمات: يارا المصري «صوت كالفضة النقية يحاور أحلامك»، وهي قصائد للشاعر شو تينغ، همدان دماج «ميكانيكا شعبية»، لريموند كارفر. وكتب الشاعر الإماراتي طالب غلوم طالب، جانباً من سيرته الإبداعية.
في باب الدراسات، تكتب الأكاديمية والباحثة اللبنانية وطفاء حمادي: «تجليات الرجولة وإشكالات العلاقة مع الأبناء في نصوص نجيب محفوظ وغارسيا لوركا»، تخلص فيها إلى أن الرجولة وضعت الرجل نفسه خارج اللعبة، عندما أخذ قرار الجمود بعدم مواجهته لهذه السلطة (السطة التي تتبدَّى في أشكال وصور القهر والهيمنة والقسوة وتكريس ثقافة التبعية... تبعية المرأة، ضمن بيئة كثيراً ما توفر أدوات ذلك القهر والهيمنة والقسوة)، «وعليه اليوم أن يجيب عن هذا السؤال: ما هو النموذج الذكوري الجديد الذي يتلاءم مع هذا القرن، ومع الخطوات الكبرى التي قامت بها المرأة؟ قديماً قالت سيمون دو بوفوار في كتابها (الجنس الثاني): لا نُخلق نساء إنما نصبح نساء. كذلك يمكن للرجل أن يقول: لا نُخلق رجالاً إنما نصبح رجالاً»، ولا أعتقد أن الباحثة حمّادي كانت تعني: يقول؛ إذ القول وحده لا يحقق ذلك الانقلاب في النظر والتفكير والتعاطي مع المرأة، ما لم يكرِّس ويعمق ذلك الفهم ممارسة وسلوكاً. وتختم حمَّادي ورقتها باستخلاص معنى من مقولة بوفوار، «إن الذكورة معطى ثقافي يتطلب التعلم والاكتساب، لذلك لا يمكننا الحديث عن نموذج ذكوري ثابت عبر الزمان والمكان».
مسرح سلطان القاسمي
وفي الباب نفسه، يساهم الكاتب والشاعر الفلسطيني محمد قدُّورة بـ «قراءة مضيئة على كتاب مسرح د. سلطان القاسمي لمؤلفه د. هيثم يحي الخواجة»، يستعرض ما تناوله المؤلف في مضمون أعماله وتفكيك شخوص ومضامين مسرحياته، ومن بينها: مسرحية «النمرود» بفصولها الثلاثة، وفيها صور من النهايات والمآلات الناتجة عن ممارسة الطغيان والفساد، « شمشون»، وفيها تشكيلات وتحولات للصراع بين الفلسطينيين، أصحاب الأرض وجذورهم الممتدة عبر آلاف السنوات، والذين اغتصبوا الحق بعد شحنهم من الجهات الأربع (الإسرائيليين)، «عودة هولاكو»، لا تبتعد كثيراً في تصويرها ومضمونها، في عملية إسقاط، عن الواقع المتردِّي والمزري للعرب اليوم، انطلاقاً مما حدث من تفكك ووهن وهيمنة قوى غريبة على القرار وإدارة شئون الأمة في الدولة العباسية، «القضية»، وهي «في صلب الواقع العربي، فيما يشبهه من واقع تاريخي قديم... (القضية) هي ماذا يحدث إذا لم نكن في حالة الوعي لما يمكن أن يحدث»، «الواقع طبق الأصل»، عودة إلى موضوع فلسطين، ولكن هذه المرة ضمن تحالف دولي وقتها تمثل في الحروب الصليبية، والظروف التي أتاحت للقائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، تحرير مدينة القدس، وفيها تركيز «على الوعي وأثره في استمرار روح المقاومة الجادّة لتحرير الذات والوطن والمستقبل»، «الإسكندر الأكبر»، وفيها تصوير لواقع صراع القوى أمس اليوم، الآليات والمنطلقات والنتائج المترتبة على ذلك الصراع، وصولاً إلى «الحجر السود»، في إزالة لبس وفك ارتباط بين «الإرهاب»، طاعون هذا العصر، وبين الفداء والتضحية في سبيل الأوطان والقضايا الكبرى؛ حيث فضح ذلك المفهوم الذي أريد له أن يكون عائماً وغائماً، تبعاً للذين يؤصلون ويقررون ما هو إرهاب، وما هو على الضد منه.
القصة... الحكاية الشعبية
أستاذ اللغة العربية بقسم اللغات الأجنبية في كلية واشتناو - آن آربر - مشيغان، بالولايات المتحدة الأميركية، صبري مسلم حمادي، تناول «القصة القصيرة وجذورها في الحكاية الشعبية، من خلال نماذج لأعمال كل من الروائي والقاص البحريني الراحل عبدالله خليفة في مجموعته «سيدة الضريح»، مستشهداً بقصة «محاكمة علي بابا»، وإن رأى حمادي، أن القصة سعت إلى استثمار نقيضين، هما الحكاية العريقة الضاربة في أعماق الفن القصصي عموماً من جانب، ومن جانب آخر، التقنية السينمائية القائمة على ديالوج، وما يطغى على القصة في اقتراب صياغتها من النسق المسرحي. كما تناولت ورقة حمادي قصة «حكاية الموقد» للقاص العراقي محمد خضير، حيث تكثيف الظلال الشعبية منذ استهلال القصة، وقصة «حكاية اللقية»، في مجموعة «أحزان البنت مياسة» للقاص اليمني زيد مطيع دماج، والقاصة الإماراتية فاطمة محمد، في استعانتها بالمعتقد الشعبي في قصة «سر الثوب»، في مجموعتها «آثار على النافذة»، وقصة العراقي محمود جنداري «زو العصفور الصاعقة»، بأجوائها الأسطورية، بتمهيدها للطوفان الذي سيغمر هذا العالم، ذلك الذي هو على مطابقة مع الطوفان الذي تحدثت عنه ملحمة جلجامش، وقصة «ساحل الكوس»، في مجموعة القاص العراقي عبدالإله عبدالقادر التي حملت العنوان نفسه، بزحف المباني الحجرية، وانحسار الطبيعة، والقاصة اليمنية أروى عبده عثمان في مجموعتها «يحدث في تنكا بلاد النامس»، حيث لا تكتفي بإعادة صياغة الحكاية الشعبية أو الخرافية، بل إنها تعيد خلقها من جديد، والكويتية ليلى العثمان في قصتها «الليلة ترقص شهرزاد»، وقصة «الإشارة يا سيدي رحال» للقاص السوري دريد الخواجة، وحصة العوضي في مجموعتها «وجوه خلف أشرعة الزمن»، والإماراتية لولوة المنصوري في قصتها «قبر تحت رأسي».
الصلاة والنرجس
الكاتبة والروائية الإماراتية ريم الكمالي، تتقصَّى «ظلال مونيه». هل هو مخترع الظل حقاً؟ كما تشير؟ ليست تلك هي المسألة. تتناول الكمالي مراقبة مونية إسقاطات الظلال في كثير من لوحاته، تلك التي وجدت فضاءها اللامتناهي في الطبيعة حيث هي. من بعد الوجوه والأشخاص، لم يجد ما يمنحه ذلك التماهي مع الوجود من حوله سوى الطبيعة التي تقول كل شيء... كل أحد في لوحاته.
وفي زاوية مدار، تكتب الأديبة الإماراتية، نائب رئيس تحرير المجلة، أمينة ذيبان «حاستي فاطمة»، بتلك اللغة المحلقة بأكثر من جناح. بتلك الرهافة التي أعادتني إلى نهايات ثمانينات ومطلع تسعينات القرن الماضي، وما احتوته من متابعات كانت ترى في الاسم/ النص مشروعاً سيعزز مرتكزات الكتابة الإبداعية في دولة الإمارات. عن «فاطمة والوهن والصلاة والنرجس» تكتب. تدخل «بين حرف مغلق وآخر منفتح» تكتب «عن ضفتيها، عن اللغات، عن الحب، عن الرسم الأبدي، والنقوش المدلَّلة بالحنَّاء واليتْم، كالماء أجدها كوردة المسافر الغريب». ليست رثاء تلك الكتابة... ليست بكاء، بقدر ما هي استحضار واستدعاء القدرة على أن تجالس الجمال/ جمال اللغة على الأقل، وسط القبح المهيمن الذي مبعثه المرارات، والعزلة المفاجئة، والقلق الذي يتحول إلى احتضار.
تظل هنالك مشكلة في توزيع المجلة/ الدورية بكل ما تحمله من قيمة. يبدو أن نقاط توزيعها مازالت مركَّزة في عواصم الكتاب العربية، وذلك أمر مهم، إلا أن حضور المجلة في إقليم منطقة الخليج يكاد يكون غير مرئي وغير متاح، ولو تمت معالجة هذه المسألة، لكانت المجلة أقدر وأوفر حظاً في استقطاب أسماء خليجية مهمة وفاعلة، ويمكنها أن تشكِّل إضافة للإضاءات والعلامات الملفتة التي حققتها وسجَّلتها طوال ثلاثة عقود إلا قليلاً.