احتفلت مملكة البحرين مع العالم بإحياء ذكرى 125 عاماً لميلاد فان جوخ بعدة تظاهرات نظمتها السفارة الفرنسية بالتعاون مع هيئة الثقافة والآثار وجاليري الرواق، وقد شملت حتى الآن حفل تدشين كتاب المبدع قاسم حداد «مدونات فان جوخ» في صالة الرواق في (1 مايو/ أيار) بمصاحبة عزف عود لابنه محمد، ومعرض صور لابنته طفول في تظاهرة جميلة لعائلة الحداد، وقد فاتتني بسبب السفر، كما شملت محاضرة للعالمة الاجتماعية الفرنسية ناتالي هينخ حول سوسيولوجيا حياة فان جوخ بتاريخ (5 مايو) في متحف البحرين، كما تضمن البرنامج، ورشتين فنيتين يديرهما الفنان الفرنسي دانيال دونلي بتاريخ (14 و 21 مايو) في مركز أليانس فرانس وندوة للفنانة بلقيس فخرو في صالة الرواق بتاريخ (15 مايو)، وعرض فيلم عن حياة فان جوخ في السفارة الفرنسية بتاريخ (19 مايو).
الحياة المتقشفة
تناولت السوسيولوجية هينخ حياة فان جوخ في مقاربة مع ظروف نشأته في هولندا ثم فرنسا والدوائر الثلاث الأقرب إليه وهي: العائلة، الوسط الفني والجمهور وترابط حياته وإبداعياته الفنية. وأشارت الباحثة إلى أن أول معرض كامل لفان جوخ قد تم في (1901)، أي بعد مرور 11 عاماً على وفاته، ونشرت أول سيرة ذاتية له في (1916)؛ ما يعني أن الاهتمام بفان جوخ وأعماله وإدراك قيمتها الفنية والمالية قد تم بعد وفاته بأكثر من عقد.
لهذا فقد عاش فان جوخ حياة متقشفة، وكان يبيع لوحاته إلى تجار اللوحات بمبالغ زهيدة لا تكاد تكفي لسد تكاليف حياته، وكلفة مواد الرسم، لولا مساعدة بعض أصدقائه مثل سيزان درينوار بينما تباع كل لوحة الآن بعشرات الملايين من الدولارات.
وقارنت نتالي حياة شخصية فان جوخ بشخصية وحياة الراهب القديس جاك وي أورجون من حيث مرحلة حياته إلى ثلاث مراحل وهي: تكريس الحياة برهبنة للقضية التي يؤمن بها، والمرحلة الثانية هي المصالحة مع النفس والمجتمع والمرحلة الثالثة هي التي يرمز إليها بالحج والاحتفال، أي توديع الحياة الثانية والانتقال إلى حياة الخلد. وفصلت الباحثة في أبعاد المرحلة الثانية لفان جوخ بأنها تتراوح ما بين العبقرية والجنون والذي تمثل في قطع فان جوخ لأذنه وإرسالها إلى حبيبته التي هجرته في رمزية للتضحية المحدودة. وأنحت الباحثة باللوم على المجتمع حينها لعدم تقدير عبقرية فان جوخ والاحتفاء به وتوفير حياة كريمة له وهو ما ولد ظاهرة الندم لدى الوسط الفني؛ وخصوصاً لهذا العقوق ولكن حيث لا ينفع الندم، فقد أنهى فان جوخ حياته مبكراً.
وعرضت الباحثة لقطبين يتجاذبان حياة فان جوخ وهما الإبداع والجنون في تداخلهما؛ ما أدى إلى إدمان فان جوخ للكحول وعزلته وتدهور حالته الصحية وانتهى به إلى الانتحار وبقدر ما مثل فن فان جوخ والفنانون الطلائعيون المخالفون حينها بدءاً بالانطباعيين مروراً بالمدارس الحديثة مثل السوريالية والتكعيبية وغيرهما من تحد للمألوف وصدام مع السائد فقد فرضوا أنفسهم وفنهم بشجاعتهم وإبداعهم وفنهم الراقي بحيث اعترف النقاد والأكاديميون والوسط الفني وأخيراً الجمهور بهذا الفن والإبداع. واليوم وعندما يحتفي العالم بفان جوخ وفنه فإنه يعيد الاعتبار إلى واحد من عباقرة الفن، ممن شقوا طريقاً جديداً وجميلاً وأبدعوا مدرسة الانطباعية البهية التي تجلت في مختلف الفنون.
في احتفال العالم به
بدوره احتفل العالم وخصوصاً المهتمين بالفنون الجميلة، بالذكرى الـ 125 بميلاد جوخ (1853 - 1890).
ولد فنسنت في مدينة هيج في هولندا من الأب ثيودور فان جوخ والأم أنا كورثيلا في (30 مارس/ آذار 1853) وينتسب الأبوان إلى مذهب كالفن الإصلاحي. وقد توفي ولداه وهو طفل حيث توفيت والدته بعد عامين من ميلاده في (1855) بينما توفي والده بعد أربع سنوات من ميلاده في العام 1857 وقد أثر ذلك على نفسيته عميقاً وأسهم في انطباع حياته بالحزن والأسى وقد يكون ذلك أحد الأسباب التي قادته إلى الجنون فالانتحار في النهاية في (يوليو/ تموز 1890).
تعهدت جدّته من أمه وأخوات أبيه تربيته ورعايته خلال ترعرعه في هولندا قبل أن ينتقل إلى باريس ليلتحق برواد المدرسة الانطباعية في الرسم مثل سيزان دوبل جوجان وهنري مونيه. ظهر نبوغ فان جوخ، وهو (الاسم الذي اشتهر به) الفني مبكراً وقد تركّزت موضوعات لوحاته خلال مرحلة هولندا حول الطبيعة، ويعتبر فان جوخ من رواد الجيل الثاني من الرسامين الانطباعيين، ولذلك فإن انتماءه إلى المدرسة الانطباعية ليس مستنكراً وإن لم يكن مقبولاً تماماً؛ إذ إن المدرسة الانطباعية كانت حينها تعتبر تمرداً على المدرسة الكلاسيكية في الفن، وقد سبقه الرواد الأوائل مثل ماتيسي وسيزان ومانيه ومونيه، كما إنه إلى جانب رسم الطبيعة في هيج ومحيطها الزراعي والبحري، فقد اهتم أيضاً بموضوعات إنسانية، مثل الفلاحين وهم يكدحون والفقراء في تجمّعهم أمام مراكز الإغاثة، وكذلك المعمار لبيوت الريف وطواحين الماء التي تشتهر بها هولندا ومزارع الزنبق بألوانها الذهبية، والحرفيين من مختلف المهن أثناء عملهم.
كما رسم فان جوخ بورتريهات لأناس عاديين ومهمين مما يظهر توجهه المبكر للتعاطي مع الكادحين والفقراء، كما رسم بورتريهات لنفسه في مختلف مراحل عمره.
أجمل اللوحات في الريف
في العام 1883، وهو بعمر الثلاثين ترك فان جوخ المدينة التي ولد وترعرع فيها (هيج) ليعيش في الريف وعدة مدن هولندية ومنها تونين الريفية 1883 - 1885 وأنيتريب الساحلية (1883-1885) حيث رسم أجمل لوحاته عن الطبيعة الهولندية، وقد طور من أسلوبه ومهاراته، كما رسم بورتريهات متعددة لنفسه بهيئة فلاح، ورسم لوحات جميلة لمزهريات الزهور والورود ولوحات لعباد الشمس، وهو موضوعه الأثير، كما أنه خلال هذه الفترة عكف على رسم النساء العاريات وخصوصاً بعد انتقاله إلى حي موثماتر في باريس حيث موئل الرسامين الانطباعيين والمجتمع المتحرر.
تعتبر المرحلة الباريسية هي الأغنى فنيّاً في حياة فان جوخ، والتي انتقل إليها نهائيّا في (1888) لكنه كان يتردد عليها وهو في أنيتريب التي توفي فيها في 1890، ومن المدهش أن فان جوج تأثر بالرسم الياباني من خلال المعارض النادرة التي كانت تقام في باريس، وله عده لوحات لمشاهد يابانية لكن بالرسم الانطباعي. واستمراراً لخطه فقد عكف فان جوخ خلال مرحلته الباريسية على رسم الطبيعة سواء في باريس أو محيطها بما في ذلك نهر السين وجسوره البديعة وبالطبع مختلف الموضوعات، مثل البيئة الصامتة وبورتريهات الشخوص من الحياة والأصدقاء ومنهم صديقه الروائي المعروف أميل زولا وزملاؤه من الرسامين الانطباعيين مثل فنسنت ومونيه ومانيه وجوجان وماتيس وقد أقام فان جوخ لعدة أشهر خلال 1888 في منطقة أرلس الريفية الفرنسية ورسم أجمل لوحات الطبيعة فيها؛ إذ شهد العام 1888 أغزر إنتاج فني لجوخ.
ولكون أرلس منطقة ريفية فهي تضم ميناء سانت ماري حيث رسم فان جوخ لوحات جميلة للسفن والسواحل والطبيعة عموماً، إضافة إلى الشخوص والمعمار والبحارة والجموع خلال الاحتفالات والمناسبات، وبالطبع موضوعه المفضل زهرة عباد الشمس.
صحبة جوجان
قضى فان جوخ معظم عامي (1889 - 1890) في سانت ريمي الريفية بصحبة صديقه بول جوجان قبل أن يهاجر الأخير إلى آخر مكان في الدنيا، جزر تاهيتي المستعمرة الفرنسية في المحيط الهادي، وهنا أيضاً أبدع فان جوخ في رسم لوحات لموضوعاته الأثيرة الطبيعة والحياة الريفية والحقول والمزارعين أثناء عملهم، وبورتريهات الفلاحين ومن بينهما اللوحة الشهيرة لفلاح وفلاحة نائمين على كومة من القش.
قضى فان جوخ النصف الثاني من (1890) في منطقة أنفرسور أوسي الريفية، وهنا أيضاً أضاف إلى تراثه الفني لوحات عن الطبيعة الريفية وشخوصها والحقول الخضراء والأشجار في مختلف الفصول وخصوصاً أشجار الكرز، وحيوانات الفلاحين.
عاد فان جوخ إلى باريس حيث توفي في (يوليو/ تموز 1890)، وعانى، على رغم حياته الحافلة، من الاكتئاب في سنوات حياته الأخيرة، وإحاطته برفقائه من الفنانين والكتاب ونقاد الفن، وتجار الفن والجمهور والشهرة التي تمتع بها، وخصوصاً أنه مر بتجربة حب فاشلة حيث هجرته حبيبته وأدى ذلك إلى جنونه بحيث قطع إحدى أذنيه وأرسلها إلى حبيبته ليثبت لها حبه دون جدوى وأخيراً وبعد معاناة مع المرض والجنون والوحدة انتحر فان جوخ ليضع حدّاً لحياة حافلة وصاخبة، حياة ملؤها الإبداع واضعاً حدّاً لحياة قصيرة لسبعة وثلاثين عاماً فقط.