العدد 4998 - الجمعة 13 مايو 2016م الموافق 06 شعبان 1437هـ

الإيقاع والوزن في النص جميلان... لكنَّهما ليسا الشعر بالضرورة

في مجموعة «أجنحة الهروب» للعُنَيسي...

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

الإيقاع والوزن والقافية في القصيدة، جوانب من جماليات النص، ولكنها ليست الشعر بالضرورة. يتفق مع ذلك الذين يناصرون قصيدة التفعيلة أو التقليدية، وبالتأكيد يتفق معه المناهضون لهما. في الطبيعة إيقاع، لكنه لا يمنح الطبيعة تلك القدرة على أن تعِد المخلوقات من حولها بالشعر.

تأتي الكتابة هنا لتستعرض مجموعة الشاعر البحريني علي العُنَيسي «أجنحة الهروب»، الصادرة في العام 2012، وهي المجموعة الأولى له، بحسب السيرة الذاتية المرفقة بالمجموعة.

المجموعة كلها مشغولة بالإيقاع والوزن والقافية. هل في ذلك تهمة؟ في الانشغال والانشداد: نعم. لكن ما الذي يمكن أن يتمخَّض عنه ذلك الانشغال، انتقالاً من قصيدة التفعيلة إلى القصيدة التقليدية/ التقليدية؟

ثمة كثيرون يظل شغلهم الشاغل ألَّا يفلت الإيقاع من النص. أن تكون القصيدة مدوزنة ضمن قانون صارم ودقيق تم التقعيد له قبل أكثر من سبعين عاماً بالنسبة إلى «التفعيلة»، وأكثر من 1000 عام بالنسبة إلى القصيدة التقليدية/ الكلاسيكية. تلك الصرامة والدقة والانشغال بهما تُحيلان القصيدة إلى آلة دقيقة الحساسية في بنْيتها، خاضعة لـ «الآلية»، إلا أن الآلية تلك ليس بالضرورة أن تكون دقيقة في جمالياتها ودلالاتها، تماماً مثل بناء تنفق عليه ثروات كي يكون الأبرز والأعلى، ولكن بهندسة تقدِّم القبح الذي لن تكون له علاقة بالجمال يوما ما، على رغم بُعد الشاهد الأخير عمَّا ترمي إليه الكتابة، لكنه في وجه من وجوهه يقدِّم معنى ما يرتبط بالنموذج الأول. أن تكون القصيدة مشغولة بالإيقاع يعني بالضرورة إفلات قيَم تقوم عليها القصيدة: غنى الدلالات فيها، واللغة الذاهبة في كشفها وابتكارها، والقدرة على استحضار الدهشة دون تصنُّع أو تمثيل. الإيقاع... الوزن... القافية كثيراً ما يورِّط كل ذلك أو جانب منه، القصيدة في القيام بعملية نفي للشعر، أو الجزء الكبير منه؛ وخصوصاً إذا كان حضورها مندفعاً ومهيمناً على حساب الشعر نفسه.

أشير هنا إلى أن لغة جزء لا بأس به من المجموعة، فيها الكثير من الجماليات، لأنها حاضرة بتمكُّن، مفرداتها شاهرة في المعنى، لا تثريب على اشتقاقاتها هنا وهناك، إلا أنه بسبب هيمنة الإيقاع، يبدو الشعر ومضة هنا، ولمعة هناك، فيما يخبو في أجزاء لا يُستهان بها. الحضور المتواصل... المتدفق...السيَّال للشعر يبدو غائباً في بعض المقاطع، وأحياناً في بعض النصوص. ثمة احتباس للشعر بمعنى من المعاني.

نقرأ في «وليد انطفاء» «أُرتّبُ حزني

كشعراتها البِيض أدنو

وليد انطفاءْ...

وبوحي عراءْ

يلملم آخر نكبة حبٍّ على صهوة الموت أعدو وأعْدو

إلى ما انتهاءْ»...

القصيدة مثل مدى مفتوح... مدى لانهائي. الإيقاع... الوزن... القافية بمثابة مطبَّات في ذلك المدى، بحيث تحيل ذلك المدى إلى حيِّز ضيِّق لا مجال فيه لاكتشاف المدى المعنيِّ... تحيله إلى مجموعة سواتر وحواجز عليك أن تقفز عليها كي تتمكَّن من الأخذ بالنص إلى حيث ترى أنه مدى مفتوح، ولكنه ليس كذلك بالضرورة.

الشاهد بين النصوص التي حوتْها المجموعة نصُّ «ترانيم الهوى القدسي»، حيث يهيمن الإيقاع على النص، لا تستطيع القبض على تجلٍّ للشعر، كما هو في قدرته على اختزال اللحظة والحس والحالة، والقدرة على التعبير عمَّا لا يُدرك في كثير من الأحيان. في النص المذكور، كما سيتضح من بعض المقاطع، عودة إلى التعريف المتأخر للشعر، وتمثُّل لشروطه: «هو الكلام الذي قصد إلى وزنه وتقفيته قصداً أولياً»، ومن جهة أخرى للتعريف نفسه إدانة للنموذج وغيره من النماذج التي تكتظ بها المكتبات العربية، وتضخها المطابع اليوم «فأما ما جاء عفو الخاطر من كلام لم يقصد به الشعر فلا يقال له شعر، وإن كان موزوناً»، والكلام هنا عن الإيقاع الذي يتلاشى - بالانشداد إليه - ما يدل على الشعر. نقرأ في النص المشار إليه:

«تُباركني

ترانيم الهوى القدسي، تعجن طين ميلادي

ومن أنفاسها أتلو مووايلي...

وأشهق في سديم الليل، أركل صمتها الغافي

وألعب لعبة الأطفال، تفرش صدرها سهلاً

تُفجّره ينابيعاً بخمر الله

ملْ الأرض ترويني».

أقول أحياناً، كي لا ينسحب هذا الكلام على التجارب كلها. في بعض التجارب ما هو قادر على إحداث حال من التوازن، وحال من إدارة «اللعبة» إذا صح التعبير، تماماً كما يفعل المايسترو، على رغم كل ذلك التعدُّد في الآلات التي تندغم معاً لتحقيق/ تمثُّل القطعة/ العمل الموسيقي، على رغم ندرتها في تحقيق ذلك التوازن، ولكنها موجودة.

أمر آخر، امتلاك كمٍّ من مفردات القاموس/ اللغة، لا يمكن أن يجعل من ذلك الامتلاك مادة مؤهلة وجديرة حتى على مستوى «صناعة» الشعر إذا ارتضينا بذلك التوصيف، والشعر بحكم الصياغات والتوليفات، والصور، والأخيلة، لا ينأى عن ذلك المفهوم، على مستوى المجاز، لكنه حين يتورَّط تجاوزاً للمجاز، وتحقيقاً، وإصراراً على الصنعة لا يعود شعراً، يمكن أن يكون أي شيء آخر، وقد يكون صنْعَة «إيقاع» فحسب.

النصوص التقليدية/ الكلاسيكية، ربما بحكم صرامة شروطها، بدت أكثر قرْباً من الشعر، حتى على مستوى الأوزان والقوافي التي كُتبت بها، تظل فيها مسحة من شفافية، وإن بدت المعاني فيها مُشوَّشة - في بعض نصوصها - مادمنا نتحدَّث عن نمط الشعر نفسه، واشتراطه المعنى، ضمن مجموعة شروط؛ سواء كان مباشراً أو غير مباشر.

النصوص التي في المجموعة، وبعض النصوص التي نشرت في صحيفة «الوسط»، إضافة إلى نصوص أخرى تكرَّم بها العنيسي، هي على مبْعدة من الإشكالات التي تبدَّت في المجموعة - نوعاً ما - سواء على مستوى المباشرة التي تغرق فيها كثير من النصوص هنا، أو على مستوى الورطة والفخ الذي يُمكن للإيقاع والوزن والقافية أن يورَّط النص وصاحبه، ليخرج على العالم بما يشبه الصناعة في مستوياتها الخاضعة للقوالب بالضرورة، والإيقاع والوزن والقافية هما في جانب منهما شكل من أشكال القوالب الضارَّة بفن سامٍ وصعب ومدهش كالشعر، وخصوصاً في ظل الانشداد لها على حساب الشعر وقيمته.

الملاحظات تلك ليست مُلزمة لأحد، وقد لا تكون ملزمة لي بعد زمن، بحكم التحوُّل في النظر، وبحكم ما يقف عليه ذلك النظر، في تناولات لجوانب أخرى من النص الشعري، لكنها تقف على واحد من الإشكالات التي مازالت القصيدة العربية تعانيها، وكأنها لا تريد الفكاك منها!





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:50 م

      الوزن هو عماد الشعر و التأثير
      فالوزن يعطي القصيدة كل قوتها و يبهر المسمتمع
      أساسا غرض الشعر في علم المنطق هو التأثير على المسمتع و أكثره تأثيرا ما كان لقافية و وزن

اقرأ ايضاً