غرفة جلوس ممتدة ذات طابع بسيط لكن مثيراً للراحة والهدوء. كل ما في المكان ينضح بنبرة ترحيبية من دون تعجّل أو اقتحام. كلمة السر هي الأرائك الوثيرة التي تمنح الزائر شعوراً أنه في غرفة جلوس في بيت ما. ليس بيته لكن بيت صديق مرحّب في ظروف إنسانية خانقة ومعيشية ضاغطة وحالة نفسية هي أبعد ما تكون عن الطبيعية ، وذلك وفق ما نقلت صحيفة "الحياة" اليوم الخميس (12 مايو / أيار 2016).
إنها الغرفة «مكان اللقاء» أو «مييتينغ بليس» الكائنة في حي «فيستيربو» في كوبنهاغن، التي يقصدها مهاجرون ولاجئون بحثاً عن ملجأ نفسي ووسيلة مرحّبة تساعدهم على مواجهة حياة جديدة صعبة، لا تمت بصلة إلى حياتهم السابقة.
أرائك كثيرة قديمة لكن مريحة، ومطبخ مفتوح، وطاولات خشبية بمقاعد. مجموعة رسوم مطبوعة باليد معلّقة على حبل تستعرض أعمالاً فنية أنجزها مهاجرون يأتون إلى المكان بحثاً عن مساعدة نفسية أو قانونية أو شخصية أو وجه مرحّب يعيد زرع الطمأنينة المفتقدة في داخلهم.
تيورا شميدت في أواخر العقد السابع من عمرها لكنها كتلة من النشاط والحيوية، يعتريها إيمان بالغ بأن العمل الذي يدور في داخل «مكان اللقاء» إنساني في المقام الأول للمهاجرين والدنماركيين الجدد وكذلك للعاملين فيه من مواطنين ومهاجرين قدامى.
عاشت شميدت سنوات طويلة في البحرين تعمل في التدريس. ولا تزال على صلة بكثير من طلابها الذين أصبحوا رجالاً ونساء كباراً. تتحدّث بكثير من الحنين والحب عن سنواتها في البحرين والمنطقة العربية، وهي السنوات التي استمرت لكن في شكل آخر بعد ضلوعها في العمل في «مكان اللقاء»، حيث نسبة كبيرة من المتعاملين معه قدموا من المنطقة العربية.
تقول شميدت إن الدنمارك لم تكن ثلاثة عقود معتادة على التعامل مع ظاهرة المهاجرين واللاجئين، باستثناء أولئك الذين قدموا إليها بغرض العمل. وتضيف: «لم نكن معتادين على استقبال أجانب من خارج المنطقة الإسكندنافية أو حتى التعامل معهم. أما اليوم فالوضع مختلف». فمع تصاعد موجات الهجرة واللجوء إلى الدنمارك، افتتحت «دانميشون» (مؤسسة تُعنى بتقليل الفقر والحوار بين الأديان في 12 بلداً في آسيا وشرق أفريقيا والشرق الأوسط إضافة إلى الدنمارك) مكتباً صغيراً لاستقبال المهاجرين واللاجئين، الذين يواجهون صعوبات في حياتهم الجديدة في الدنمارك.
كانت البداية في أعقاب أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، حين أصبح العالم على صفيح ساخن وتحوّلت لغة التعايش إلى جبهة مواجهة وخوف من الآخر. «أردنا أن يكون هناك مكان لنتحدّث فيه إلى بعضنا بعضاً ونعرف فيه بعضنا بعضاً، وليس فقط لنتقابل من بعد. في البداية لم يأتِ أحد. لذلك لجأنا إلى توجيه خطابات شخصية لهم مرحبين بهم وداعين إياهم لزيارتنا ولو لاحتساء فنجان من القهوة. وحدّدنا فترة الصباح للنساء، وفترة بعد الظهر للرجال. كنا مدركين أن مشكلات الرجال قد تختلف عما تشكو منه النساء، وأن كلاهما ربما لا يود الحديث عما يواجهه أمام الآخر».
وتضيف شميدت أنه من المثير مراقبة تطوّر الطريقة التي يتعامل معها ضيوفنا مع المكان. وتتابع: «كانت إحدى المغربيات تأتي بداية على استحياء شديد. كانت تفضل أن تجلس على مقعد منزوٍ قريب من الباب، وكأنها مستعدة لأن تبرح المكان بسرعة في أي لحظة. وتدريجاً راحت تستكشف أماكن الجلوس في الداخل، وانتهى الأمر بإنها تعرض دائماً أن تطهو للمجموعة كلها في المطبخ مساء يوم الخميس حيث تتجمّع النساء».
أفغان، إيرانيون، عراقيون، أكراد، لبنانيون، سوريون، أتراك وغيرهم يترددون على هذا المكان، إن لم يكن بحثاً عمن يدلّهم على محام يتولّى إنجاز أوراقهم القانونية، أو إداري يسهّل عملية التحاق صغارهم بالمدرسة، أو مستشفى يعالج مريض في العائلة، فربما لمقابلة وجوه مضيافة تنزع فتيل الخوف والرهبة من الحاضر والمستقبل. فقد ترك هؤلاء وراءهم حياة كاملة حيث الأهل والجيران والأصدقاء وثقافة مختلفة وتركيبة حياتية يومية لا تمت بصلة إلى وتيرة العيش في الدنمارك. وفجأة وبعد تجارب قاسية وهرب من أماكن حرب وصراع أو دمار، وجدوا أنفسهم في مكان غريب لا يعرفون ثقافته أو يتقنون قواعد حياته أو حتى يتحدّثون لغته.
وتلفت شميدت إلى أن الحياة في الدنمارك من دون إجادة لغة البلاد أمر بالغ الصعوبة ومثير للتوتر والضغط، حيث أن إنجاز الأوراق وإلحاق الصغار بالمدارس والحصول على الرعاية الصحية وفرص عمل تحتّم الإلمام ولو حتى بمبادئ هذه اللغة.
لكن المثير في هذا المكان هو أن العاملين فيه لا يقدّمون خدمات، بل تعاطفاً وتكافلاً. «تكــــافل» هي الكلمة الأكثر ترديداً هناك. والـــفائدة المـــتبادلة هي المهنج حيث ينأى العاملون بأنفسهم عن التـــعامل مع المتردّدين على «مكان اللقاء» من منطلق أنهم جهة تقدّم الخدمات لأناس أقل حظاً وأكثر فقراً وأدنى علماً.
توضح شميدت: «يظن بعضهم أننا الطرف الأقوى الذي يمد يد العون والمعرفة للمساكين. لكن الحقيقة أنه كثيراً ما نجد أنفسنا وقد وقفنا على الجانب المستفيد من تجارب إنسانية بالغة الثراء ودروس بشرية رائعة نتعلّمها من أشخاص ربما يكونون أميين. مبدأنا هنا هو التكافل والتضامن والتشارك».
أحد أبرز وجوه التشارك في هذا المكان يقبع في التنوع الديني. فالمنطقة التي يقع فيها «مكان اللقاء» تحوي ست كنائس وستة مساجد، وغالبية المترددين على المكان هم من المسلمين، إذ يشكّل المهاجرون حوالى 85 في المئة منهم. وعلى رغم الصعوبات التي تواجهها مساجد المنطقة في التعامل مع المهاجرين واللاجئين، حيث مشكلات في التواصل والوصول إليهم ومساعدتهم على الإندماج في المجتمع من دون انصهار، إلا أن «مكان اللقاء» يعمل على تحقيق ذلك لا سيما أن الغالبية تحمل تجارب هجرة ولجوء عادة ما تترك لديهم آثاراً نفسية بالغة الصعوبة.
الأب أندرياس راسموسن شاب في العشرينات من عمره وكاهن إحدى الكنائس القريبة. يعمل من قرب مع «مكان اللقاء» وما يساعد كثيراً في عمله أمضى عام 2011 في دراسة العلوم الدينية في سورية ولبنان. يقول إن مشكلة اللاجئين والمهاجرين في الدنمارك لا تقتصر فقط على كيفية الاندماج والتعامل مع الحياة الجديدة والتغلّب على ذكرى تجربة بالغة القسوة فقط، لكنها أيضاً تتطلّب عملاً على الجانب الآخر حيث يكون المجتمع المستقبل للمهاجرين الجدد قلقاً ومتوتراً ومتخوّفاً منهم نظراً إلى محدودية الموارد الموجودة، سواء فرص عمل أو أموال أو غيرها، ومن ثم شعور طبيعي بأن القادمين الجدد ينافسونهم عليها. لذا الحرص على الحديث «عن التشارك في الموارد، والمنافع المبتادلة». كما «نعمل من منطلق أن التضامن هو مبدأ أخلاقي».
ومن المنطلق ذاته يقول مفتش عام الأوقاف الإسلامية في دار الفتوى اللبنانية الشيخ أسامة حداد إن الإنسان يلجأ من مكان الخوف إلى مكان يبحث فيه عن العدل وحقوق الإنسان، ولا ينحصر «الإيمان الحقيقي بالصلاة والزكاة والحج بل يكمن أيضاً في كيفية التعامل مع الآخرين».
وكان حداد في زيارة إلى الدنمارك نظمتها مؤسسة «أديان» اللبنانية للدراسات الدينية والتضامن الروحي بالتعاون مع «دان ميشون» ضمن برنامج «تعليم العلاقات بين الأديان من أجل مواطنة متعددة الثقافات».
وعلى رغم أن بعضهم يقف أحياناً حجر عثرة من دون تحقيق ذلك، حيث رفض للمهاجرين أو تضييق على اللاجئين، ينشط أشخاص وتطلق مبادرات ترحب بهم وتتضامن معهم قولاً وفعلاً.
وفي هذا الإطار لم يعد كثر من رواد «مكان اللقاء» يتعاملون معه باعتباره مكتباً للبحث عن خدمات، بمقدار ما تحول إلى بيت للقاء والراحة. ويكفي أن الكبار والصغار باتوا يلقبون تيورا شميدت بـ «ماما» بناء على ما يشعرون به من حاجة إلى دفء إنساني من جهة، وما تقدّمه هي وفريق العاملين معها من تضامن ورسائل طمأنة لهم.