ثمة تأسٍّ عميق يبثه المخرج محمود صباغ في ثنايا فيلمه الروائي الطويل «بركة يقابل بركة»، والذي عرضه كأول فيلم سعودي روائي طويل بمهرجان برلين السينمائي الدولي 2016، ونال عنه جائزة «اكومينكيل». تأسٍّ على الراهن الذي يعيشه جيل مشوش بين حياة مفقودة وأخرى راهنة مضطربة، أحلام تتوالد وخيبات تتكابد، شباب محبط أمام محظورات المجتمع ونظام إدارة الشئون البلدية ونظرة التيار الديني المتشدد. يقول بطل الفيلم وهو يحدث نفسه في ديالوج داخلي حميم: «نحن عايشين في دولاب، جيلنا كله عايش في دولاب ما نقدر ننفك من عجلته».
عبر مشاهدة خاصة، ينسرد الفيلم في لغة سينمائية متزنة، وفي غير سوداوية، أو مباشرة فجة تنغزل حبكته، لتقدم نسيجاً دراميا رصيناً، مبتعداً عن التشكي التراجيدي، أو الكآبة المفتعلة، لكنها لغة مليئة بالسؤال والرفض، تلتقط صورة بانورامية لحياة شاب وفتاة، يمثلان شريحة واسعة لشباب الطبقتين السائدتين في مجتمع مدينة جدة.
شخصيات ومصائر
بركة عرابي (الممثل هشام فقيه): شاب في بداية حياته العملية، يقطن في حي شعبي، ويعمل في البلدية، موظف ميداني، يتلقى التعليمات من إدارتها لملاحقة المخالفين للأنظمة، ولأنه ابن حارة يظهر مدى تسامحه أو تردده في أن يطبق النظام بصرامته، أو أن يراعي مبادئه الإنسانية التي تشربها في حارته، ولأنه أيضاً عضو وممثل في جمعية المسرحيين، فهو مليء بالحس الجمالي وبتكوين نفسي عفوي تعززه نزعته الدينية المعتدلة.
تجمع بركة علاقة صداقة مع أحد أبناء الحارة الأصيلين «دعاش» (الممثل سامي حنفي) الدائم على نصحه وتوجيهه بحس فطري، وانتقاده لشخصيته المحجمة عن اتخاذ قراراتها المصيرية، ولا يخلو نصحه من طرافة ابن البلد البسيط البعيد عن قلق العصر، حتى وإن كان من جيل سابق بدت عليه أثار الإحباط، نموذج ممتد من الثمانينيات ينظر إلى جيل بركة بكثير من الحنق والأمل، لعل جيل بركة يستطيع أن يكون ما لم يكنه جيل دعاش، ولكن من هو بركة الذي قابله بركة؟
بيبي حارث (الممثلة فاطمة البنوي): عارضة أزياء، نجمة إنستغرام، لديها مليون معجب، ممن يتابعونها ويكيلون لها كلمات الإعجاب و «اللايك»، وهي مشغولة طوال الوقت بتصوير نفسها «سيلفي» لتنقل إليهم تعليقاتها ونصائحها، وبالتالي ينتقل المشاهد المتأمل إلى ذلك العالم الافتراضي وحقيقة أنه أصبح واقعاً معاشاً بحيوية تضاهي حيوية العالم الحقيقي.
حبكة متزنة
تتنقل مشاهد الفيلم بين عمق المدينة، بيوتها وفضائها وبحرها الواسع. يقول البطل في لحظة مواجهة: «البحر بحر ربنا، حقنا كلنا»، وفي مشهد آخر ينساب مقطع من أغنية «ما أحلى أن نعيش في بيت واحد ما أحلى أن نكون في وطن واحد». ويقف البطل في مشهد ثالث أمام لوحة تبين جملة من الممنوعات لمن يرتاد البحر، يقف مشدوهاً لثوانٍ، نتأمله ونشعر بما يشعر، وفي نقاش حاد مع أحد أصحاب المقاهي التي يريد بركة أن يخضعها لشروط إدارة البلدية بإزالة الكراسي من على الرصيف، يقول صاحب المقهى (أداء محمود صباغ): «أنتم تخنقون الفضاء العام، تتركون تياراً أحادياً ينفرد في الشارع وبعدين تبكوا على نمو الإرهاب والتطرف». بيبي مداومة على شرب القهوة، في إشارة لمحاولتها الدائمة لتحسين مزاجها. الداية سعدية، جارة بركة، تحضر إفطاراً له ولوالده ومعهم دعاش: إشارة للحياة الحميمة التي تسود الحارة الشعبية. دم ينساب من صنبور الماء أمام بركة: إشارة أخرى للرعب من الواقع. تدخين دعاش المستمر لسجارة الحشيشة وشرب المسكر، دلالة على الضياع الروحي.
إشارات يمررها الفيلم في غير مباشرة، لتفضي لأحقية المطالبة بأن يعيش الجميع في حمى التسامح من دون مضايقات قوانين مفروضة، وعلى رغم ذلك تأتي لحظة تنوير ساطعة، بعدما طبق بركة بصفته موظف البلدية تنفيذ إغلاق المقهى، يبث حديثه لصديقه دعاش: «اليوم أقفلت مقهى، مو واجب ولا وظيفة، لأ، كأني مبرمج. نحن بنتسامح مع أشياء كثيرة ما هي منطقية في حياتنا، والمنع الزايد دا تراه غلط».
هكذا يمضي السرد الفيلمي في عدة خطوط أفقية متوازية ومتقاطعة، كاميرا تنقل برشاقة في زوايا تصوير متناغمة، وأماكن مختارة بعين حساسة عبرميزانسين متكامل ومشغول بعناية لكل مفردات اللقطة، وضمن كوادر وإطارات مريحة للفرجة، مليئة بلغة السينما البصيرة التي اشتغل عليها مدير التصوير «فيكتور كريدي» بوعي ضافٍ، وخصوصاً في تصوير الأماكن الخارجية: الشوارع والبحر والحارة، لتساهم بشكل بالغ في إيصال المعاني والدلالات البصرية المكملة لحكاية وعالم الفيلم.
إلى جانب ذلك تخلص المخرج وكاتب القصة، محمود صباغ، من ضوضاء الموسيقى التصويرية غير اللازمة، ولم يستخدم المؤثرات الموسيقية إلا في لحظات معينة، باختيارات «زيد حمدان» و «مي وليد»، لتضيف إلى المشاهد بعداً صوتياً ممتعاً، مع أجواء الفيلم المدعوم بأداء طبيعي من جميع الممثلين، على رغم أنهم لم يمثلوا من قبل في أي عمل. ظهور استضافي للمثل المخضرم فؤاد بخش، الذي رحل قبل يومين من عرض الفيلم، فكان بركة الفيلم وهديته.
حدوتة برسم المفاجئة
من هذه الخطوط المتقاطعة يبدأ المشاهد في لم خيوط قصة بركة والفتاة بيبي التي يراها صدفة وهي خارجة من عملها في بوتيك «كراكوزة» للأزياء، والذي تمتلكه وتديره مدام ميادة، سيدة الأعمال المتسلطة والعصبية على نحو دائم، وتلفت بيبي انتباه بركة.
يأتي بلاغ من البلدية عن شغر مكان عام، ويكلف بركة بتقصي قيام مجموعة من الشباب بالتصوير في ذلك المكان، وعندما يذهب إلى الموقع يفاجأ بأن التصوير لإعلان دعائي وأن بطلته هي نفس الفتاة التي شاهدها تخرج من البوتيك.
يلتقي بركة بـ «بيبي» في معرض فن تشكيلي، وتبدأ علاقتهما في التطور، لتصل إلى مرحلة الحب، ونتعرف على تفاصيل أكثر عنهما، نتفاجأ بأن بيبي حارث ليست ابنة مدام ميادة، إنما ابنتها بالتبني، وواقعة تحت سيطرتها بشخصيتها المأزومة، فميادة لم تنجب، وعملت على استغلال بركة ليأتي لها بالداية سعدية (الممثلة خيرية نظمي) أو المرأة «المتسيطة» كما يصفها بركة نظراً لقدراتها وخدماتها اللامحدودة لأهل الحارة.
مكاشفة تنتصر للذات
تتصاعد الأحداث وتصل مرحلة عدم التحمل عند بيبي، فميادة تغار من شهرتها، وتسعى لتجيير تلك الشهرة لمصلحتها الخاصة. يتفاقم الاحتقان بينهما إلى أن تأتي القشة التي قصمت ظهر العلاقة: ترتدي بيبي صدرية، فترى ميادة أنها تشوه تصميم فستانها. يحتد الخلاف، وتقرر بيبي أن تخرج من عالم ميادة، ولا تجد سوى بركة لتنفجر أمامه رافضة واقعها وحياتها المرهونة في قبضة امرأة متسلطة.
تتأزم العلاقة بين الحبيبين، وفي مشهد فانتزي يتخيل بركة أثناء أدائه بروفات المسرحية، أنه «هاملت» ويراقص حبيبته «أوفيليا»، يتخيل ذلك ويلاقي حبيبته وقد قررت الانعتاق من سجنها، وفي ذات الوقت ينتصر بركة على نفسه ويقرر أن يواجه مخاوفه ويهزم عدم قدرته على مواجهة حياته واتخاذ قراراته. لقد أصبح أكثر جرأة.
يلتقي الحبيبان بروح جديدة، روح تود أن تنتصر لأحلامهما، وتكشف بيبي لبركة أن اسمها الحقيقي ليس بيبي وإنما هو أيضاً «بركة»، وأن بيبي اسم الشهرة، وأن ميادة ليست أمها، وأنها أعلنت ذلك على متابعيها في الإنستغرام، يجلس الحبيبان قرب بعض، وقد اتفقا على إكمال حياتهما من دون زيف، ونسمع أغنية مع نزول التتر النهائي: (بركة هي دي البركة هي دي هي دي البركة بركة) يتقابل الحبيبان بركة وبركة بروحهما الجديدة المنتصرة، ونفهم معنى عنوان الفيلم (بركة يقابل بركة).