الفنانة التركيبية البريطانية فيليدا بارلو، ليست الوحيدة التي دخلت فضاء الفنون، من تشكيل ونحت وأعمال تركيبية في سن متأخرة من حياتها؛ إذ علينا أن نتذكَّر هنا الفنانة لويز بورجوا التي اشتهرت في العالم بأعمالها التركيبية في النحت والرسم؛ على رغم دراستها الرياضيات والهندسة في جامعة السوربون. بارلو بدت وقتها دخيلة على الفن الذي أصبحت في صميمه، بالشهرة التي حظيت بها، والمكانة المرموقة بين عدد من كبار فناني بلادها والعالم.
بارلو التي ولدت في نيوكاسل بإنجلترا بتاريخ 4 أبريل/ نيسان 1944، عملت أستاذاً للفن لأكثر من أربعين عاماً، وهي أستاذة فخرية في مدرسة سليد للفنون الجميلة، حيث درَّست عدداً من مشاهير الفن أمثال: تاسيتا دين، راشيل وايتريد ودوغلاس غوردون. والدتها، بريجيت ممن مارسوا الكتابة، فهي مؤلفة لها حضور مشهود وقتها، أما والدها إيراسموس داروين بارلو، فكان طبيباً، هجر الطب لينخرط في مجال الأعمال، وهو حفيد العالم الشهير تشارلز داروين.
درست في كلية تشيلسي للفنون في الفترة ما بين 1960-1963. تحتفظ ذاكرتها بكثير من الوفاء؛ إذ ذكرت في أحد لقاءاتها أن جورج فولارد، أحد أساتذتها، هو أول من فتح عينيها على استخدام مواد غير تقليدية في النحْت.
مراسل الفنون في صحيفة «الغارديان» مارك براون، التقاها وكتب تقريراً يوم الخميس (28 أبريل/ نيسان 2016)، سلَّط فيه الضوء على مسيرتها، ورؤيتها للأعمال التي تشتغل عليها، مستويات التلقِّي لدى الجمهور، وصولاً إلى ترشيحها لأكبر ملتقيات الفنون في العالم، علاوة على دخولها قائمة المرشحين لجائزة باربرا هيبورث، في دورتها الأولى ضمن أربعة فنانين، وقبل ذلك التكريم الملكي الذي حظيت به. هنا أهم ما جاء في التقرير.
اقتحام مصنع مهجور
يستهلُّ مارك براون تقريره بالإشارة إلى أنه منذ وقت يقارب العشرة أعوام، لم تبِعْ الفنانة فيليدا بارلو أياً من أعمالها، ولم تكن دور العرض تُقبل على اقتناء أعمالها. في الماضي، كان من الطبيعيِّ بالنسبة لها أن تترك أعمال النحْت التي تُنجزها في الشارع لتعرف ما الذي سيحدث، أو أن تقوم مثلاً باقتحام مصنع مهجور لتثبيت شيء (عملٍ) لا أحد سيراه.
ويوضح براون بأن بارلو لم تُتَحْ لها فرصة أن تكون أعمالها مُمثَلة في معرض تجاري، مسلِّطاً الضوء على أعمالها المصنوعة من مواد عديمة الفائدة مثل الخشب المضغوط، أوراق الألمنيوم، البوليسترين والكرتون، وأن تلك الأعمال كانت معروفة لعدد قليل من الناس خارج شريحة ضيِّقة تنتمي إلى عالم الفن.
في الأشهر الأخيرة حظيت بتكريم ملكي (CBE)، يتم منحه مكافأة للدور الوطني البارز، وهو في درجة أقل من ذلك التي يُمنح للأدوار الرائدة في الشئون الإقليمية، من خلال تحقيق أو القيام بخدمات للمجتمع متميِّزة للغاية، أو المساهمة المُبتكرة في أحد المجالات أو النشاطات. كما تم اختيارها لتكون ممثلة بريطانيا في بينالي البندقية للعام 2017، إضافة إلى كونها على القائمة القصيرة للمرشحين لجائزة النحت الرئيسية. وستعرض في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل عملاً جديداً لها في مساحة واسعة من «Zurich›s Kunsthalle».
القول، إن الفنانة البالغة من العمر 72 عاماً، زائرة مُتأخِّرة إلى النجومية الفنية العالمية، هو قول يُجافي الحقيقة. «على الأرجح سأنهار وأسقط ميِّتة أمامك الآن» قالت بارلو ذلك وهي تُطلق ضحكة.
يستدعي براون في هذا الصدد مُقارنة تعقدها مديرة «تيت مودرن» التي تم تعيينها مؤخراً، فرانسيس موريس، بين بارلو ولويز بورجوا، الفنانة التي حققت أيضاً شهرة في وقت متأخر من حياتها؛ إذ قالت موريس: «كثير من الفنانات العظيمات عانيْن من تأثير كونهن في الظل، وقدِّر لهن أن يكنَّ بعيداً عن الحضور العام حتى ستينات وسبعينات القرن الماضي. وكم هو عظيم أن اكتشفنا (بارلو) الآن».
يُذكر أن الفنانة لويز بورجوا ولدت في العاصمة الفرنسية (باريس) في 25 ديسمبر/ كانون الأول 1911. اشتهرت في العالم بأعمالها التركيبية في النحت والرسم. التحقت بجامعة السوربون في العام 1930 لدراسة الرياضيات والهندسة.
انضمت في العام 1954 إلى مجموعة الفنانين الأميركان المعاصرين. أتاحت لها صداقتها مع الفنانين: ويليم دي كوننغ ومارك روثكو، وجاكسون بولوك، تطوراً ونضجاً فكرياً، ساعدها على الانتقال من الحفر على الخشب والنسيج، إلى الرخام والجصِّ والبرونز. قامت بعمل «ميزون» بين عامي (1946-1947)، و «الجذع» العام (1963-1964)، و «قوس الهستيريا» (1993)، وكلها تصوِّر الجسم الأنثوي. من بين أعمالها النحتية والتركيبية: «يانوس فلوري»، (1968) «تدمير الأب» 1974 و «ماما» 1999.
الالتزام الوحيد هو أن تكون فناناً
وعلى رغم الحضور الذي تحظى به في الوقت الحاضر، إلا أن براون يشير إلى قولها في أول مقابلة لها مع صحيفة «الغارديان» منذ إعلان اختيارها لتمثيل بريطانيا في بينالي البندقية، بأن ذلك الاختيار على وجه التحديد كان مفاجأة. مضيفة «إنه حقاً لأمر مثير وغير عادي أن يُطلب منك القيام بذلك... هو أمر مذهل. وهو أمر غريب بالنسبة إلى فنانة مثلي، بوجود الكثير منّا في حضورهم، ممن قاموا بأشياء فيها الكثير من المغامرة، حاملين أعمالاً إلى أماكن نائية وغير معروفة؛ سواء كان هناك جمهور أم خلاف ذلك، دون أن يشكِّل ذلك قلقاً بالنسبة لهم. الآن وقد تم عرض تلك الأماكن عليك فإن الأمر يصبح غير عادي».
عملت بارلو مدرِّسة للفن منذ ستينات القرن الماضي؛ ما جعلها تدريجياً تشق طريقها لتصبح أستاذاً للفنون الجميلة ومديراً للدراسات الجامعية في سليد.
وفي هذا الشأن قالت: «أن تكون مدرِّساً فتلك كانت الطريقة المُثلى كي تكون حراً في أن تصبح فناناً، لديك الأستوديو الخاص بك، وتفعل ما تريد من دون التزام أو ضغوط كي تُظهر أعمالك». «الالتزام الوحيد هو أن تكون فناناً».
يشير بروان إلى أن بالرو كانت بعيدة كل البُعد في جيلها عن تحقيق التوازن بين الأمن الوظيفي في التعليم مع انعدام ذلك الأمن في كونها تعمل كفنانة.
تتساءل بارلو عمَّا إذا كان الأمن ذاك ولّد رضا في النفس. «أنا لا أعتقد أن جيلي ترك الباب مفتوحاً على مصراعيْه لجيل أكثر اندفاعاً... على رغم أنني كنت مندفعة دائماً وإلى حدٍّ كبير. استغرق الأمر طويلاً بالنسبة إلى جيل داميان هيرست للانكباب بروح من الجِدِّ على قضايا مثل: كيف تعمل كفنان؟ وكيف يُمكن أن تعمل بطريقة اقتصادية؛ سواء أحبَّ الناس ذلك أم لا فهذه مسألة أخرى».
تقاعدت من التدريس في العام 2009، فيما مخاوفها تتحدَّد في أن المدارس الفنية تضع الكثير من التركيز على تعليم الطلاب «نموذجاً» لكيفية أن تكون فنانًا، مشيرة إلى دورات الممارسة المهنية للعرض.
الإحباط... صُنْع المُربَّى!
تتساءل بالرو «ماذا يعنيه ذلك؟ يبدو لي ميكانيكياً بشكل لا يُصدَّق»، مشيرة إلى أن شخصاً غريب الأطوار، أو من هو قادر على كتابة دعابة لانهائية لا يمكنه التخلُّص من العراقيل البدائية بتلك السهولة.
تنتمي بارلو إلى حدٍّ كبير إلى العاصمة البريطانية (لندن)؛ على رغم أنها ولدت في نيوكاسل في العام 1944؛ لأن والدها الذي عمل طبيباً نفسياً، وهو حفيد تشارلز داروين، انتقل إلى هناك للعمل على مشروع طبيٍّ يرتبط بفحص ارتجاج المخ.
عاد إلى لندن بعد الحرب العالمية الثانية، لتترعرع في العاصمة. درست الفن في تشيلسي في الفترة ما بين 1960 - 1963، حيث التقت زوجها فابيان بيك، ابن الفنانة والكاتبة البريطانية ميرفين بيك (1911 - 1968) مؤلفة «Gormenghast»، التي تضمُّ سلسلة من ثلاث روايات نشرت بين الأعوام 1946 و 1959، وتعتبر مثالاً أول لأعمال روايات الخلق، وتعتمد اعتماداً كبيراً في فضاءاتها على الأدب القوطي.
درست في وقت لاحق في سليد حيث كان من ضمن معلّميها النحات ريغ بتلر، الذي قال لها بشكل مُحبط وكئيب، إن أعمالها لن تكون محط عديد من المناقشات لأنها عندما تبلغ سن الثلاثين ستكون قد أنجبت أطفالاً، أو ستكون مشغولة في صنع المُربَّى.
على مَرِّ السنوات كان من بين تلاميذها: راشيل وايتريد، تاسيتا دِين، مارتن كريد ودوغلاس غوردون، وقائمة طويلة، ولكن بارلو تصرُّ بأن دورها ليس أكثر من «خط توجيه مناسب».
وتستشهد هنا بالفنان البريطاني مارتن كريد (مواليد العام 1968) الذي قال بأنني «أفضل معلِّم لم أعلِّمه». «كانت قوَّتي كمعلِّمة تكمن في أن أكون مهتمَّة جداً بالسبب الذي يجعل الطلاب يجدون صعوبة في تعلُّم الفن، وكيف أن البيئة كانت مثبِّطة للوعي، وكيف أنها يمكن أن تشلَّهم ... وكانت تلك أمور أعرفها جيداً».
بارلو أم لخمسة أطفال، أربعة منهم أصبحوا فنانين، أحدهم إدي بيك، وهو واحد من أهم الفنانين الشباب في المملكة المتحدة.
اللعب مع الفضاء
يتلمَّس التقرير جانباً من إمكانية ردم الفجوات بين التدريس كمهنة وتربية أبنائها، من دون أن يحول ذلك دون التركيز على فنها. قالت: «منذ أن أنجبنا الأطفال، ونحن منضبطون بشكل لا يُصدَّق» مُضيفة «إن التصميم على توظيف كلِّ ما يُتاح من الزمن يُصبح متأصلاً، ولا تفقده أبداً».
يقول براون: «من الواضح أنها لم تصبح فنانة كي تبيع أعمالها». تردُّ «الأمر ليس على ذلك النحو، من أنني لا أرغب في بيع أعمالي. لم يحدث أن كنت في وضع يُتيح لي بيع الأعمال. لم أكن أعرف كيفية إيجاد الناس لبيع أعمالي لهم». «بدلاً من الحصول على أدوات وطرق تُعينني على القيام بذلك، أردت فقط أن أباشر العمل وأسعى إلى تحقيقه».
كما هو ملحوظ، فإن الكثير من الأعمال التي أنجزتها خلال مشوارها الفني لم يعد موجوداً، لأنها إما عمدت إلى إعادة تدويرها، أو ترْكِها حيث كانت معروضة. في ثمانينات القرن الماضي تتذكَّر تركها أعمالاً فنية في شوارع لندن، صندوق برغل في «كينغز كروس» على سبيل المثال.
أصبحت بارلو محطَّ مراقبة العديد من المتابعين عندما ملأتْ أعمالها معارض «تيت بريتان» الضخمة، بأعمالها التركيبية المذهلة بتثبيت المكوِّنات الآيلة للسقوط باعتماد السقالات الخشبية، والبوليسترين، والمنصَّات والحبال.
من جانبه، كتب أدريان سيرل في «الغارديان»: «يبدو وكأنه تساهل غير عادي كي يُسمح باللعب مع الفضاء بهذه الطريقة. أعرف بعض الناس ممن يرون بأن الأمر مُهين... وهو ليس كذلك، إنه عمل فيه تقدير واحترام بشكل لا يُصدَّق».
أطلق سيرل على الرؤية التي تشتغل عليها بارلو، بأنها محصِّلة عملها حتى الآن. وقال: «هناك كلمة بشأن تلك المُحصِّلة: نجاح باهر».
من جهتها قالت بارلو، إنها لم تُرهَب أبداً من الفضاء، كما أنها لم تُرهَب من العرض الفني في زيوريخ أو البندقية في العام المقبل (2017).
معرفة الصفات المُجرَّدة
بارلو واحدة من أربعة فنانين على القائمة القصيرة من المرشَّحين لجائزة باربرا هيبورث في دورتها الأولى، وهم بالإضافة إلى بارلو: ستيفين كلايدون، هيلين مارتن، وديفيد ماداييا. وتمنح الجائزة مرة كل سنتين، بقيمة تصل إلى 30 ألف جنيه إسترليني، وتختص بالنحت البريطاني المُعاصر، وسيكون عرْض أعمالها في «ويكفيلد هيبورث» ابتداء من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
الجائزة تحمل اسم الفنانة التشكيلية باربرا هيبورث، وهي واحدة من كبار النحَّاتين في القرن العشرين.
وعن رؤيتها للمعارض قالت: «نحن نعيش في مثل هذه المعارض التي تهيمن عليها ثقافة الفنون البصرية، ذلك الجانب في كونك فناناً يبدو أنه غير مُقدَّر الآن... كثير من الأعمال تُنتج من دون وُجهة في الذهْن، وكثير من تلك الأعمال عظيم حقاً». «أُظهر الآن شغفي بالمزج بين الاثنين.أحتاج الأشياء التي يُمكن أن تتعامل مع نفاد الصبر الذي أُعرف به».
لدى بارلو خمسة مساعدين في الأستوديو، وهو عبارة عن مستودع في شمال لندن. تبدع أعمالاً من شأنها أن تزعج بعض الناس. والأشياء تلك يتم إبداعها من أشياء. بعض الأشخاص يجدونها جميلة، على رغم أن بارلو تقول، إن أعمالها لا تطمح إلى أن تكون كذلك.
تقول: «ربما يعود ذلك إلى أنني لأ أفكر بما فيه الكفاية بالجمال في عملي لأنني فضولية جداً لمعرفة الجانب الآخر من الصفات، الصفات المجرَّدة للوقت، والوزن، والتوازن والإيقاع، الانهيار، والتعب، مقابل مفاهيم ديناميكية أكثر استقامة ربما من موقف عقلي أو حالة نفسية... الحالة التي قد تشي بأن شيئاً ما قد يكون في الداخل، هل ينمو أم ينكمش؟ هل هو بصدد الصعود أو السقوط»؟