استضافت كلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد العريقة منتدى التاريخ العابر لليسار في الشرق الأوسط، في مقر دراسات الشرق الأوسط والذي يرأسه البروفسور يوجين، ونائبه توبي ماشيون، وبدعم من جامعة كوبنهاجن، وبشخص مدير دائرة دراسات الشرق الأوسط سون هوجبول على مدى يومي 29 و30 أبريل/ نيسان 2016، وشمل برنامج المنتدى تقديم أوراق عمل من اختصاصيين، ويعقب كل ورقة عمل مناقشة من الحاضرين، وهم معظمهم أساتذة جامعون وباحثون في شئون الشرق الأوسط.
بدأت الندوة بكلمتين للمنظمين ألقاهما كل من مسئول مركز الشرق الأوسط بكلية سانت انتوني بروفسور يوجين وسون هو جيل وتوبي ماثيسون، حيث أوضح أن هدف المنتدى هو عرض لمسيرة اليسار في المنطقة العربية وإيران، وتقديم حاضره واستكشاف مستقبله، ثم تلا ذلك ثلاث جلسات في اليوم الأول، وتركزت الجلسة الأولى حول كتب التاريخ، وشملت ورقة ستيفاني كورنت بكلية سانت انطوني حول كتابه «تاريخ الشرق الأوسط من القاعدة»، ثم ورقة جون شاكلرونت من مدرسة لندن للاقتصاد حول السياسة الشعبية في تشكيل الشرق الأوسط الحديث. أما الجلسة الثانية فكانت حول العلاقات العابرة للقوميات لليسار العربي، وشملت ورقة لرويل ميجر من معهد هولندا للعلاقات الدولية حول السياسي والاقتصادي المصري راشد البراوي الذي لعب دوراً قيادياً في التخطيط الاقتصادي في عهد عبدالناصر، ثم ورقة جيهان العزاوي من جامعة إدنبره، حول الهوية في لبنان والعراق والعلاقة مع الشيوعية.
أما الجلسة الثالثة فكانت حول إرث اليسار في إيران والعراق حيث قدمت فيها ورقة ليوهان فرانزن من جامعة انجليا بعنوان الشيوعية القومية مقابل الاشتراكية العربية، وانشقاق اليسار العربي، وورقة رونيا عبدالرازق من كلية سانت انتوني بأكسفورد وهي دراسة مقارنة بين حزب توده والحزب الشيوعي العراقي.
وفي اليوم الثاني فقد كانت الجلسة الأولى بعنوان إرث اليسار في الخليج والجزيرة العربية، وشملت تقديم ثلاث أوراق لعبدالنبي العكري (باحث مستقل) حول اليسار في الخليج، والثانية لهيلين لاكنر من جامعة درهام حول الحزب الاشتراكي اليميني، من القومية إلى الاشتراكية، والثالثة للباحث المستقل كامل الخطي حول إسقاطات اليسار في السعودية. أما الجلسة الثانية فكانت بعنوان «إرث اليسار في شمال إفريقيا» وشملت تقديم ورقة لمريام أوجو من جامعة ويستمسنتر حول الاستمرارية والانقطاع في اليسار المغربي، والورقة الثانية لمارك ليفاين من جامعة كاليفورنيا حول «تاريخ اليسار في تونس»، أما الجلسة الثالثة فكانت بعنوان اليسار والحرب في سورية حيث قدم فيها عن طريق «سكايب» ورقة لكرم نجار من جامعة إيزك حول المّنظر اليساري السوري ياسين الحافظ وناقشه فيها سون هو جيل.
واختتم المنتدى بجلسة مطولة لمناقشة مجمل ما جاء في المنتدى وتقديم مقترحات حيث جرى التوافق على عقد ندوة في السنة القادمة أكثر تخصصاً حول اليسار حالياً، ومن المواضيع المقترحة اليسار والربيع العربي، أو اليسار والسلطة، أو اليسار والحداثة. كما أعلن عن أن أوراق الندوة في شكلها النهائي سيتم نشرها في كتاب عن جامعة أكسفورد.
لاشك في أن كثيرين سيتساءلون عن جدوى وأهمية عقد ندوة علمية في واحدة من أعرق وأشهر الجامعات في العالم، جامعة أكسفورد حول اليسار العربي في الوقت الذي تراجع فيه اليسار على امتداد الوطن العربي كقوة سياسية فاعلة؛ بل وتلاشى من بعض الساحات، وسقط حكم اليسار حيثما ما كان يحكم، وحيث تشهد المنطقة أعتى ردة في تاريخها أعادتنا إلى القرون الوسطى وعنوانها «داعش». والحقيقة أنه وكما أوضح أحد المشاركين، أن دور الباحثين والأكاديميين هو البحث في القضايا الكامنة في الظل، أو المتجاهلة من قبل الإعلام والسياسيين لا يمكننا في هذا الحيز أن نعرض الأوراق المقدمة في المنتدى، وهي غنية، ولا المناقشات التي تبعتها وهي ثرية، ولكن يمكن القول إن المنتدى قدم مادة ثرية جداً وعميقة جداً لمسيرة اليسار في المنطقة العربية، منذ بروز الأحزاب الشيوعية في الشام في العشرينيات حتى اليوم.
أما المشترك في هذه الأوراق فهو أن العوامل المؤثرة في مسار التنظيمات اليسارية بطابعها الشيوعي أو القومي أو الوطني، فهي مزيج من عوامل عدة أهمها البيئة الحضارية والسياسية، فهناك بالطبع فارق حضاري في زمن النشأة بين بلاد الشام ومصر من ناحية والخليج والجزيرة والعربية من ناحية أخرى، كما أن هناك فارقاً كبيراً بين الوضع السياسي في ملكيات مستقرة نسبياً كما في مصر والمغرب، وبلدان مضطربة بالانقلابات مثل سورية والعراق واليمن، وبلدان مستقرة مثل تونس والمغرب. وهناك فرق بين بلدان كانت خاضعة للاستعمار أدخلت فيها إصلاحات وتحديث نسبي كما في عدن ولبنان والجزائر والمغرب، وما بين بلدان متخلفة مثل اليمن لم تلامس التحديث. كما أن هناك فرقاً بين بلدان خاضت حرب التحرير مثل الجزائر واليمن، وبلدان جرى فيها نقل السلطة من بلد الحماية مثل بريطانية في الخليج أو الاستعمار كما في لبنان.
أما الفارق الآخر فهو أن الأحزاب الشيوعية العربية مع تباينها استمدت مرجعيتها ودعمها من الاتحاد السوفياتي بكل نجاحاته وإخفاقاته، وقد تسبب ذلك في تبعية فكرية وسياسية مضرة، لكن هناك تبايناً فيما بينها أيضاً. أما اليسار العربي الجديد فولد من خضم الحركة القومية بتفرعاتها وصراعاتها وتجربتها وخصوصاً حركة القوميين العرب والبعث والناصرية. أما اليسار الوطني وكما هو الأبرز في شمال إفريقيا، المغرب والجزائر وتونس، فقد استوعب فكره من مصادر عدة، ومنه الفكر الشيوعي والفكر الاشتراكي الأوروبي، والوطنية المغربية والمحلية، ولذلك كان الأكثر تماسكاً واستمرارية وفاعليه، بل استطاع المشاركة في الحكم وخصوصاً في المغرب.
أما الاستنتاج النهائي فهو أنه على رغم انحسار اليسار بل وانتهاء معظم تنظيماته القديمة، فقد كان له تأثير ولايزال في بث أفكاره وقيمه وممارساته وتطويرها، والتي تملكتها جماهير واسعة، وهي في معظمها خارج التنظيمات اليسارية، وبعضها منضوٍ في حركات جديدة. ولقد وضح هذا التأثير من ثورات وانتفاضات الربيع العربي، حيث جرى استحضار سير وصور قادة يساريين مثل المهدي بن يركه في المغرب وعبدالفتاح إسماعيل في اليمن مثلاً، ولقد أسهمت التنظيمات والشخصيات اليسارية بمختلف تلاوينها في الثورات وانتفاضات الربيع في الحراك وفي التسييس وفي التنظير، على رغم كل ما تعرفه عن النهاية المأساوية لمعظم هذه الثورات، لكنه معلوم أن الثورة عملية معقدة بين مد وجزر، وليست على حد قول لينين: «مستقيمة كشارع نيفكسي».
ويبقى اليسار حيثما يكون مرتبطاً بشعبه وديناميكياً ومواكباً للتطورات والتجديد في صفوفه، فاعلاً في النضال الوطني والقومي والأممي.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4991 - الجمعة 06 مايو 2016م الموافق 29 رجب 1437هـ
المستقبل ؟
......