لنتخيّل أنفسنا ونحن نقرأ هذا النصّ من أحد الكتب. يقول مؤلفه: «عندما انتقلنا للعيش في المدينة اختار أبي لنا بيتاً من الطراز التيودوري. كما اختار لنا مدرسة تُعلِّم اللغة اللاتينية. كان أحد أساتذتي فيها من جزيرة مان، وكان غاية في الخلق. وعندما كنتُ أرجع إلى البيت في آخر يوم دراسي نهاية الأسبوع تأخذني أمي إلى نهر تيست حيث يُصطاد سمك السلمون المرقّط».
وعندما انتقلت إلى مدرسة أخرى تبيّن أن كنيسة فيكتورية رائعة تجاورها، كنا ننظر إليها عبر النوافذ الفرنسية. وفي الجانب الآخر كانت المدرسة تطل على المياه المتدفقة من نهر أدور. أما طاقمها التعليمي فكان متميزاً. كان أستاذنا في الأدب بارعاً جداً، كان يمنحنا فرصة كافية لمناقشة نصوص مسرحيات أسخيلوس». انتهى.
هذا النصّ ليس وهمياً بل حقيقي ولكني كتبتُه بتصرُّف. لن أناقش مَنْ كَتَبَه وفي أي حقبة، فهو لا يعنيني كثيراً، بقدر ما يعنيني فهم بعض ما جاء فيه. دعونا نشرح بعض ما جاء في فقراته. في الفقرة الأولى يشير الكاتب إلى بيتهم المبني على الطراز التيودوري. وهذا المصطلح (التيودوري) يعني سِماتاً معمارية تعود إلى حقبة الأسرة التيودورية التي حَكَمَت بريطانيا طيلة 118 عاماً (1485م – 1603م) وتعاقب عليها ثلاثة ملوك وملِكَتَيْن: هنري السابع، وهنري الثامن، وإدوارد السادس، وماري تيودور، وإليزابيث الأولى.
ومن مميزات هذه الأبنية أنها مَزَجَت بين الطُرُز القوطية التي كانت رائجة في نهاية العصور الوسطى في أوروبا وبين فنون العمارة خلال عصر النهضة. ويقوم هذا الفن على الأقواس العمودية المثقفة والجدران المضلّعة، وفي داخل البيت بَهْوٌ واسع للحفلات الصاخبة وسلالم خشبية منقوشة، وحجر مترامية على جدرانها رسومات أو قطع نسيجية، وتحيط بالبيت حديقة واسعة.
ثم يشير إلى حرص أبيه على أن يجِدَ لأبنائه مدرسة تُعلِّم اللغة اللاتينية. والحقيقة أن تاريخ هذه اللغة (اللاتينية) يمتد من العام 70 قبل الميلاد ولغاية القرن السابع عشر الميلادي. وموطنها الأساس كان المنطقة الوسطى الغربية من إيطاليا، ثم بدأت في الانتشار بفعل نفوذ الإمبراطورية الرومانية. وتُنسَب اليوم اللغة البرتغالية واللغة الفرنسية والإسبانية والكَتَلانيّة والإيطالية إلى جذر لاتيني.
يبلغ عدد الحروف اللاتينية 23 حرفاً، بينها ستة عشر حرفاً صحيحاً وستة حروف علّة وصوتٌ واحد صامت. وهي لغة خالية من أدوات التعريف والتنكير ليُترَك توصيف المعنى للسياق بالإضافة إلى تفصيلات عديدة في التصريف والإعراب. أما أرقامها فهي حرف الـ V متبوعاً بخطوط طولية. وكلما زادت أعداد تلك الخطوط تمت الإشارة إلى زيادة في الرقم.
ثم يتحدث الكاتب عن أستاذه الذي ينتمي إلى جزيرة مان. وهي جزيرة صغيرة تقع بين إيرلندا والمملكة المتحدة. لا تزيد مساحتها عن الـ 572 كيلومتر، وسكانها عن الـ 75 ألفاً. وهي عملياً تتبع التاج البريطاني منذ قرنين ونصف تقريباً، لكنها أيضاً تتمتع بثقافة يتمازج فيها الاسكتلندي بالاسكندنافي. ومن أهم ما يُقرَن بجزيرة مان هو اللغة المانكسية الغيلية وهي لغة قديمة جداً.
ومن الأشياء العجيبة أن آخر رجل كان يتحدث بهذه اللغة (المنسوبة للغات الهندوأوروبية) قد توفي في منتصف السبعينات من القرن الماضي واسمه نيد مارديل، ثم أعيدَ إحياء تعليم هذه اللغة في مدارس الجزيرة وفي جامعاتها كذلك، حيث أصبحت لغة مناقشة أكاديمية، لكنها ظلت ضعيفة التداول أمام اللغة الإنجليزية التي أصبحت اللغة الأساسية في جزيرة مان.
وفي معرض إشارته إلى ما كانت تفعله والدته مع أبنائها في العطل، يذكر الكاتب اسم نهر تيست. وهو نهر يقع في هامبشاير (جنوب إنجلترا). يبلغ طوله قرابة الـ 64 كيلومتر، ورغم مشاكل الجفاف إلاّ أن هذا النهر هو من أفضل المياه النهريّة هناك لصيد سمك السالمون. وهو سمك يختلف عن غيره من الأسماك في طريقة تكاثره (في النهر) وعيشه (في البحر) ولون زعانفه. وسُمِّي بـ المرقّط لأن السّواد الذي فيه يشوبه بياض أو العكس (بياض به نقط سواد) وهو وصف الرُّقْطة في العربية.
من الأشياء اللافتة هي ذكره للفظة: فيكتوري. وهو مصطلح يشير إلى حقبة الملكة فيكتوريا التي حَكَمَت بريطانيا طيلة 64 عاماً (1837م – 1901م). على رغم أن البعض يجعل هذا المصطلح أوسع من حكم الملكة فيكتوريا إلى تحوّل بريطانيا من دولة زراعية إلى دولة صناعية، حين انبلجت ثورتها الصناعية العام 1848م.
أما حين يذكر لفظة النوافذ الفرنسية فهو يشير إلى طريقة نَجّاريّة خاصة معروفة في أوروبا، حيث يكون الباب والنافذة في هيكل واحد يُفتَحَان على واجهات زراعية أو من شرفات الطابق الأعلى في البيت. أما ذِكْره لـ أسخيليوس فهو يشير إلى الكاتب المسرحي الإغريقي المشهور الذي عاش في الفترة من 525 – 456 قبل الميلاد، واشتُهِر بمسرحيتَيْه: الفرس وسبعة ضد ثيبس.
هنا، أصِلْ إلى ما أريد قوله. فهذا النوع من التدقيق في مفردات النصوص ومصطلحاتها والبحث عن معانيها وخلفياتها الجغرافية وغيرها (سواء في الكتب أو في منطوق الكلام) هو الأقدر على زيادة حصيلتنا المعلوماتية والثقافية التي نكتشف بعد سنوات أنها أصبحت بنكاً يعيننا على فهم اللغة وربط الحوادث وفهم شواهدها وتفسيرها. نعم قد يأخذ منا هذا النوع من القراءة وقتاً طويلاً، وقد يجعلنا لا ننهِي كتاباً واحداً إلاّ بعد مرور وقت طويل، لكن الأكيد أيضاً هو أن ذلك المنهج أفضل من قراءة عشرين كتاباً بشكل عابر.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4989 - الأربعاء 04 مايو 2016م الموافق 27 رجب 1437هـ
وانا أيضا أحب التدقيق كثيرا فيما اقرأ وابحث عادة عن المعاني المشار اليها والغير مكتوبة مما يثري فعلا حصيلتي المعلوماتية الى جانب حصيلتي اللغوية في العربية والفرنسية، ناهيك انها تكسب النص رونقا في التعبير وافساح الفضاء للتفكير. (مقال رائع ومفيد)
أحسنت
أنا من الأشخاص الذين يقرؤون ببطأ شديد أحياناً .
وتستوقفني كثيراً الجُمل والعبارات والمفردات المستخدمة والتعابير وصياغة الكلام
وأري نفسي أرجع لها وأكرر قرائتها إعجاباً بإختيار الكاتب لكلماته وعباراته وطريقة صياغتها ( ومقالاتك هي من ضمنها )
الفرق بين الكم والكيف، يبين لنا مسألة الجودة
هناك من لديه نفس تجميعي يعتمد على الحافظة، وهناك من لديه نفس تحليلي للأمور، وكلاهما لهما ايجابيات وسلبيات..
وهذا ما يجعل من البشر متمايزين عن بعضهم في هذه الجوانب
أحسنت
من القصص العجيبة لين تسمع ان واحد قرأ كتاب كامل في يوم واحد!!!!!!