معركة حلب» التي توقفت مؤقتاً «بهدنة معلنة» ومحددة الزمن بين واشنطن وموسكو؛ هي معركة سياسية عسكرية صعبة ومعقدة بامتياز. معركة تمثل المخاض العسير الذي تدركه جميع القوى المنخرطة بهذا الشكل أو ذاك في الحرب على سورية، وتطور الحوادث يمثل بحد ذاته منعطفاً خطيراً بين سباق السياسة والمناورات الدبلوماسية وما يدور في الميدان، وبما سيشكل الكلمة الحاسمة في تسويات ومسارات العملية التفاوضية المقبلة، وما يستولد من رحمها من نظام دولي جديد.
إن توقيت ما دار وما سيدور من معارك بعد معاودة القصف والتدمير في مساره الجديد، وما سيفرزه من نتائج، سيؤسّس دون شكٍ إلى مرحلة حرجة في تاريخ الحرب العبثية. لقد ضاقت الخيارات، وصار «الحسم العسكري» سيد الموقف في المشهد الدموي للحرب على الإرهاب ومتزعّمي تصديره وتمريره ودعمه وتمويله، تحت أي اعتبارات، وبما يتقاطع ويحقق مصالح المشروع الصهيوني لتقسيم المنطقة العربية وإعادة رسم خارطتها على أسس دويلات مجزأة لجماعات تتحارب دينياً ومذهبياً وإثنياً.
حلب والجغرافيا السياسية
حلب مدينة التاريخ ومركز الاقتصاد السوري أيام الرخاء، لها أهمية استراتيجية وجغرافية في خريطة العمليات العسكرية، وهي معيار معادلة التوازن الإقليمي والدولي والمفتاح الحدودي للمناطق المتاخمة على الحدود السورية التركية. وهي حسب مؤشرات الواقع، أحد أهم معاقل تمركز الجماعات الإرهابية المسلحة كـ»داعش» و»أحرار الشام» و»جبهة النصرة»، ما يعني أن حسم معركتها النهائي؛ سيشكل دون ريبٍ، مكسباً وربحاً نوعياً في تثبيت المطالبات التفاوضية لأي طرف من الأطراف اللاعبين الإقليميين والدوليين.
الوضع يتسم بحالة استقطاب حادة، حيث أشارت صحيفة «التايمز» البريطانية، إلى أن «معركة حلب حيوية لنظام الأسد وحليفه الروسي، الذي قرّر إخماد أية مقاومة فيها باستخدام المدفعية والقوة الجوية»، فالقوات الروسية المتحالفة مع قوات النظام استهدفت بقصف الطيران المدنيين والمدارس والأسواق وحتى مستشفى «القدس» الميداني بما أودى بحياة ما لا يقل من 27 فرداً، بينهم أطفال وأطباء ومصابون ومرضى، فيما أطلقت المعارضة المسلحة من جهتها الصواريخ على الأحياء المدنية التي يسيطر عليها النظام، فجاءت الخسائر موجعةً وكبيرةً في أوساط المدنيين، حيث تشير التقارير إلى مقتل أكثر من 350 شخصاً، ناهيك عن الحصار وقصف المدافع الذي يخرق الهدنة.
إذاً فهي المعركة المصيرية والأكثر دمويةً وعنفاً في تاريخ الحرب؛ وحتماً ستكون تبعاً للمراقبين المعركة الحاسمة لمستقبل سورية بل وللمنطقة عامة، حتى إن أحد المحللين السياسيين الروس وصفها من حيث القيمة بما يشبه «معركة ستالينغراد الأسطورية»، التي يمكن أن تغيّر الوضع الجيوسياسي في المنطقة وفي العالم. أما «التايمز» فتكشف عن علاقتها بمفاوضات جنيف؛ حيث تحاول قوات النظام برأيها تطويق المدينة وطرد المعارضة منها، وبالتالي فإن الحصول على مدينة حلب، يجعل النظام والحليف الروسي أكثر استعداداً لعقد صفقة التسويات، والتركيز على التعاون بين روسيا وواشنطن وقوات النظام للقضاء على «داعش» في الرقة، ما يعني أيضاً أن قوات النظام عنصر حاسم في المعركة وتستفيد منها القوتان العظميتان؛ وإن دحر «داعش» من سورية وتقليص حجمه يمثل نصراً جوهرياً للولايات المتحدة وحلفائها من جهة، ومن جهة متصلة يثبت نظام الرئيس الأسد ويعتبر أيضاً نصراً للرئيس بوتين. لكن المأساة الكبرى بأن الخاسر الأكبر في هذا الجنون سيبقى الشعب السوري المهدور دمه بشكل بارد بين اجتماعات ومفاوضات ومساومات وهدنة.
مدينة حلب تعني الكثير لأطراف الصراع الإقليمية وأبرزها النظام التركي الذي حاول ولا يزال بما لديه من أوراق، تغيير مسار الحوادث على رغم ضعف تلك الأوراق وللدرجة التي انغمس فيها بالحرب، كما خطّط لإقامة منطقة عازلة على الحدود السورية-التركية وفرض حظر جوي فوق المناطق السورية القريبة منها، الأمر الذي قد يفسح المجال لأنقرة لدعم الجماعات المسلحة وتهريب السلاح إليها. ومن الواضح فإن هذا السيناريو قد فشل حتى اللحظة بسبب التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، وهو ما غيّر من مجريات الحرب جذرياً، كما قوّض عمليات تهريب النفط السوري عبر تركيا، خصوصاً بعد حادثة إسقاط «سوخوي 24» الروسية من قبل الأتراك.
صفقات وكسر عظم
في هذا السياق، وجد محللٌ من أصدقاء للمعارضة، أن لدى موسكو نية مبيتة تجاه «جبهة النصرة» وفصائل المعارضة الأخرى في «معركة حلب»، وإن تقدم النظام السوري في هذه المعركة هو محاولة لإعادة توريط الروس في الصراع لاسيما بعد إعلان انسحابهم من سورية، كما أن استنفارهم للمعركة محاولة لإحراج حليفهم الإيراني ودفعه لتقديم مزيدٍ من الدعم بزج المقاتلين الإيرانيين والعراقيين وقوات من «حزب الله» والأفغان والباكستانيين، وتحت غطاء جوي روسي واستغلاله لقضية الصراع على النفوذ في سورية بين إيران وروسيا، إضافةً إلى استغلاله لتحركات حزب العمال الكردستاني «بي كا كا» وميليشات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي «ب ي د»، مستبعداً نجاح النظام، خصوصاً أن المعارضة المسلحة حسب زعمه أعادت ترتيب صفوفها وبناء تحصيناتها في فترة الهدنة.
مقابل هذا الرأي، لا ينكر المحسوبون على النظام الاستعدادات الهائلة لحلفاء النظام لخوض معركة كسر العظم في المرحلة المقبلة، وبانتظار الضوء الأخضر الروسي. وعليه واستناداً إلى المعطيات السابقة، السؤال يطرح نفسه بإلحاح: هل فعلاً «معركة حلب» سترسم خريطة سورية والمنطقة بمجملها؟ يبدو الأمر كذلك؛ خصوصاً أن التقارير تكشف عن اتفاق مبرم على منصة الصفقات والتفاوض بين واشنطن وموسكو بشأن استثناء مدينة حلب وريفها من وقف إطلاق النار، وأن هناك تفاهماً بينهما خلط أوراق المنطقة لجهة اجتثاث «جبهة النصرة» و»داعش» الإرهابيتين حسب تصنيف الأمم المتحدة، وهما كما يعرف العالم، تنشطان وتتمركزان وسط حاضنتهما الشعبية في أحياء حلب الشرقية، ما يعني وحسب تسريبات وتقارير إعلامية بأن لدى قوات النظام وطيران حلفائه ضوء أخضر لتنفيذ مهمة القضاء على «داعش» و»النصرة»، الأمر الذي يفسّر تبعاً لوجهة نظرهم «ما يشبه الصمت» الأميركي خلال الأسبوع الماضي الذي شهد القصف المتوحش. إلا إن النظام بالمقابل أبدى قلقه من أنباء تحدّثت عن دخول 150 جندياً أميركياً للأراضي السورية في «قاعدة رميلان» الواقعة تحت سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية حليفة واشنطن في قتالها ضد «داعش»، معتبراً دخولها عدواناً سافراً وتدخلاً خطيراً وانتهاكاً صارخاً للسيادة السورية. وهنا تجدر الإشارة إلى اختلاف متفاوت بين واشنطن وموسكو بشأن دور هذه القوات والمدى المسموح بتمدّدها في إطار الإدارة الذاتية والفدرالية.
خلاصة الأمر، إنها حروب متمددة بالوكالة، تتدافع في أتونها كل تناقضات القوى الدولية والإقليمية ومصالحها، ويدفع أثمانها الشعب السوري. الولايات المتحدة لا تخوض حرباً عالمية هنا مع روسيا ولصالح الشعب السوري المنكوب، أياً كان مع النظام أم ضده، إنما هي لصياغة جغرافيا جديدة محيطها دويلات مجزّأة مفتتة قائمة على جذور عرقية وطائفية.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4988 - الثلثاء 03 مايو 2016م الموافق 26 رجب 1437هـ
الثورة السورية تحولة لحرب مذهبية على المكشوف وحتى الحرب اليمنية ومشكلات الدول الأخرى في المنطقة والأخطر من كل هذا انقسام الشعوب العربية والإسلامية وغياب العقل وأصبح النظر لهذه الكوارث ليس مايشاهده أو يسمعه حتى من قنوات محايدة بل المذهب وقنواته الإعلامية هي الحقيقة أم تدخلات الدول الكبرى في هذه الماسي للمصالح فليس حرب أخطر من الحرب الدينية