يأخذك كتاب الباحث البحريني راشد عيسى الجاسم «العلاقات البحرينية الفلسطينية 1917-1982»، إلى أسماء ووجوه ومواقف مبكرة أبداها الشعب البحريني تجاه فلسطين وعاصمتها القدس، زيارات وتلقي تعليم، ومساندة. كما يأخذك إلى منابع التأثر بأعلام وشخصيات حركية ومؤثرة في المشهد النضالي العربي والإسلامي.
هنالك تعريج على مواقف التضامن والمؤازرة للقضية الفلسطينية العادلة التي تبدَّت في شكل تظاهرات أو تبرعات، وأحياناً بالكلمة من خلال مقالات الرأي في ما توافر من منابر صحافية وقتها، وبعد ذلك بسنوات. قصص وتوثيق بأسلوب ممتع وجذَّاب، لا تكلُّف فيه.
كان شعب البحرين سبَّاقاً في المنعطفات الكبرى، تلك التي ارتبطت بالاحتلال والانتداب، ووعد بلفور الذي تم ترتيبه لقيام وطن لليهود على حساب الشعب الفلسطيني. ولم تكن مبادرات البحرينيين إلا انطلاقاً من إحساسهم بالمسئولية الدينية والتاريخية، معبِّرين عن مواقفهم تلك بأشكال تضامن وتكافل.
يقف الكتاب على جوانب وإضاءات لبعض المواقف المتعلقة بقضايا العرب الكبرى.
الكتاب الذي قدَّم له الباحث علي فيصل الصدِّيقي، نوه إلى نقطة مهمة تتعلق بالكتاب الذي أراد مؤلفه الذي خصَّ به العلاقات البحرينية الفلسطينية، أن يتوِّج صدوره باختيار دار نشر فلسطينية لتقوم بعملية توزيعه «دار الجندي للنشر والتوزيع»، مشيراً الصديقي إلى أن الكتاب هو الأول لبحريني يُنشر ويطبع في القدس الشريف.
الجاسم أشار إلى بعض مرامي الكتاب في المقدمة، بالقول إن صفحاته «تشكل محاولة متواضعة في كشف طبيعة التضامن الذي مارسه البحرينيون في مجمل طبقات المجتمع من مثقفين وتجَّار ورجال الدين» وغيرهم. موضحاً أن الكتاب يتناول «تاريخ العلاقات البحرينية الفلسطينية في تلك الفترة، عبْر الإشارة إلى بواكير تلك العلاقات قبل النكبة في مجالات التعليم والعمران». منتقلاً بعد ذلك في أجزاء من الكتاب إلى «مفاصل التفاعل البحريني مع قضية التقسيم والنكبة، مروراً بالنكبة حتى بداية الثمانينات».
يستهل الجاسم الفصل الأول من كتابه بربط العلاقة بين التضامن البحريني قبل النكبة، بفهم الدور الذي اضطلع به الشعب البحريني في مواقفه المناصرة والمبكرة للشعب الفلسطيني، من خلال العودة «إلى الحركة الفكرية في فترة قبل الانتقال للتعليم النظامي (1850 - 1918)» بانتشار مدارس التعليم الديني، وما انتظم فيها من تأثر بالأفكار الإصلاحية التجديدية في العالم الإسلامي، من خلال أكبر الرموز: السيد جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، وعبدالرحمن الكواكبي وسيد أحمد خان «وأقرانهم في مصر والشام والعراق والهند وإيران»، وما تركته أفكار أولئك من صدى كبير في أوساط النخب من المثقفين والعلماء والأعيان.
الأفغاني في البحرين
من أبرز سمات حملة الأفكار الإصلاحية والتجديدية، مناهضة المستعمر، إلى جانب موقف أولئك المصلحين من حملات التبشير التي وجدت لها موطئ قدم في عديد بلدان الشرق.
وفي تناوله لأهم وأبرز أسباب انتقال الفكر التجديدي الإصلاحي إلى البحرين، والأدوار التي اضطلع به رجالات البحرين، يورد الجاسم أسماء لشخصيات تلقت تعليمها في عدد من العواصم والمدن العربية والإسلامية التي كانت منبع ذلك الفكر التجديدي الإصلاحي.
يبدأ بشباب بحرينيين درسوا في مصر والهند، وتحديداً في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى الربع الأول من القرن العشرين، من بينهم الشيخ أحمد المهزع، وتلقى تعليمه في الأزهر الشريف (1883 - 1887)، وكان لابد أن يتأثر بأفكار الأفغاني وعبده بعد عودته إلى البحرين، وكذلك الشيخ محمد صالح يوسف (1900 - 1903)، مشيراً الجاسم إلى أنه كان له دور «في التحول للتعليم النظامي الذي واجه معارضة شديدة من قبل بعض رجال الدِّين».
وبالنسبة إلى الطلبة الذين درسوا في جامعة علي كرة، ومن بينهم أبناء تجار اللؤلؤ: علي بن حسين يتيم، ناصر مبارك الخيري، وأحمد حسن إبراهيم، وخليل إبراهيم كانو.
كما كان لتوافد الأعلام العرب والمسلمين على البحرين دور كبير في تجذر الأفكار الإصلاحية والتجديدية في البحرين، مورداً ما رواه الريحاني من أن الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة حدَّثه في مجلسه عن جمال الدين الأفغاني «الذي عرج مرة على البحرين قائلاً: لم يكن في تلك الأيام من يعرف لجمال الدين مقاماً، ولا من يكترث به. حتى أنه لم يجد في هذا البلد من يضيفه. هذا منذ ثلاثين سنة. أما اليوم فترانا نرحب بالعلم ورجاله»، مشيراً إلى أن ذلك يؤكد بأن «فكر السيد جمال الدين الأفغاني الذي قدم إلى البحرين نحو العام 1892؛ أي قبل ثلاثين عاماً من زيارة الريحاني للبحرين قد لاقى ترحيباً بعد 3 عقود من مجيئه».
بحرينيون في فلسطين
من بين أوائل الذين زاروا القدس من البحرينيين، المغفور له الشيخ عبدالوهاب الزياني (1863 - 1925)، ويشير الجاسم إلى أن زيارته تقدَّر في الفترة ما بين 1913 - 1918، وفي زيارته تلك قام بإلقاء محاضرة. كان نشاط الشيخ الزياني مصدر إزعاج وقلق بالنسبة إلى الوجود البريطاني في البحرين والمنطقة.
بحرينيون درسوا في القدس
ومن بين البحرينيين الذين يذكرهم الباحث الجاسم ممن درسوا في القدس، الشيخ محمد بن علي بن يعقوب الحجازي، الذي تلقى علومه الأولى على يد الشيخ سعيد اليماني، كما تعلم القرآن على يد محمد علي باشا. وبعد أن أنهى دراسته في الحجاز «أخذ يجول في العالم الإسلامي لطلب العلم، فزار القدس ودرس في مدينة الخليل بفلسطين». تبعها بزيارة إلى كل من لبنان والمغرب حيث تلقى العلوم الشرعية على أيدي كبار علماء البلدين. ويستند الجاسم إلى ما ذكره الباحث البحريني عبدالله آل سيف في كتابه «كشكول آل سيف» من أن الحجازي قد يكون «آخر بحريني تشرَّف بتلقِّي العلم الشرعي في القدس، وكان ذلك في العام 1952».
ويشير الباحث في الفصل نفسه إلى أن ممن درسوا في القدس الشيخ سلمان بن محمد بن عيسى آل خليفة «حيث كان يدرس الحقوق في القدس، وكانت سنوات دراسته هناك في منتصف الأربعينات من القرن العشرين.
ويفرد الباحث مساحة لبحرينيين دفنوا في القدس، ومنهم عبدالرحيم الكوهجي «والذي كان مسافراً عن طريق البر من السعودية إلى الأردن في العام 1952 للعلاج»، وشاءت إرادة الله أن يلقى ربه هناك في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه بعد أن ساءت حاله الصحية، وبحسب ما قال ابنه عبدالله الذي كان برفقته «أبي كان يريد الذهاب إلى القدس رحمه الله، ولم أحقق أمنيته، ولذلك سأقوم بدفنه هناك».
الوعي والعمل للقضية الفلسطينية
تمتع شعب البحرين بوعي كبير تجاه عديد القضايا التي ترتبط بالعروبة والقضايا المرتبطة بالاستعمار الذي عانت منه معظم الأقطار العربية، ولم يكن وعد بلفور الذي بموجبه تم منح وطن لليهود على حساب الشعب الأصلي (الفلسطينيين)، بمنأى عن وعي شعب البحرين وإدراكه لخطورة ذلك المخطط، لذلك كانت مجالس المحرق وغيرها من مناطق البحرين، مُحدَّدة في مجالس تجَّار اللؤلؤ تتناول تلك القضايا؛ علاوة على ما تتناوله الصحف التي كانت متوافرة في تلك الفترة وخصوصاً صحيفة «القافلة» التي أوردت في عددها الرابع بتاريخ 19 ديسمبر/ كانون الأول 1952، خبر أول الزيارة قام بها مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني إلى المنطقة في العام 1920، وزيارة أخرى على رأس وفد فلسطيني زار الكويت «من أجل حملة تبرعات لإعمار المسجد الأقصى».
ويشير الجاسم إلى أنه بسبب ذلك الوعي وتناميه «لم يتأخر البحرينيون في مساندة الأشقاء في فلسطين، وفي بداية العام 1929، أعلن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطين سلسلة من المشاريع لترميم المساجد والآثار الإسلامية، وفي شهر مايو/ أيار 1925، وصل إلى البحرين وفد من المجلس المذكور بقصد جمع التبرعات من أعيان البحرين لإصلاح مسجد عمر بغزة في فلسطين».
ويورد الجاسم تقريراً لمجلة «المنار» يوضح أسماء الدول التي دعمت مشروع تعمير الحرم القدسي الشريف، بعد أن وجه المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في فلسطين نداء من خلال المجلة، للتبرع لهذا الغرض، حيث احتلت البحرين المركز السادس بمجموع تبرعات وصلت إلى 2681 جنيهاً و 780 مليماً، وجاءت الحجاز في المركز الأول بمجموع تبرعات وصلت إلى 38761 جنيهاً و 733 مليماً. ومن بين الجهات المتبرعة: الحجاز، الهند، العراق، الكويت، والمحمَّرة.
حقبة الثلاثينات
يتناول جانب من الفصل الأول من الكتاب، ظهور الحركة الإصلاحية تأثراً بالأحداث التي شهدتها فلسطين العام 1936، وظهور الكتلة الوطنية في الكويت في العام 1938، وحركة الإصلاح السياسي في دبي. وذكر الجاسم بأن الحركة الإصلاحية في البحرين، والتي تشكلت من الطائفتين «عقدت اجتماعها الأول في مجلس سعد الشملان، والذي ضم منصور العريض ومحسن التاجر، والسيد سعيد وعبدالله أبوذيب ممثلين عن الطائفة الشيعية، وخليل المؤيد وأحمد الشيراوي وعلي الفاضل وسعد الشملان عن الطائفة السنية، والذين تعاهدوا أن يكونوا صفاً تجاه استبداد المستشار وتقديم مطالب مشتركة للحاكم». ويفصل في تناوله هذا عدداً من المطالب التي تم رفعها، وما حدث من اعتقال الشملان والشيراوي.
بالتزامن مع ذلك الحدث وفي العام نفسه، بدأ الدعم البحريني لثورة فلسطين الكبرى (1936 - 1939)، من خلال النداء الذي أطلقه النادي العربي بالمحرق، دعماً ونصرة لقضايا الأمة العربية وعلى رأسها قضية فلسطين، لتنقل صحيفة محب الدين الخطيب في عددها 567 في عامها الثاني عشر (17 يوليو/ تموز 1937)، «بيان نادي البحرين التاريخي بعنوان احتجاج البحرين على تقسيم فلسطين، والاعتداء على حقوق العرب».
ومن بين الصحف التي تناقلت مواقف البحرينيين، صحيفة «الفتح» في عددها رقم 511، من أن «أهل البحرين تفاعلوا مع حملتها لجمع التبرعات من أجل فلسطين، ونلاحظ ذلك التبرع بقيمة 70 جنيهاً من مسلم كريم في جزيرة البحرين، رفض الإفصاح عن اسمه (...)».
لجنة إعانة أيتام فلسطين
وفي الكتاب إشارة لما ذكرته صحيفة «البحرين» التي أسسها رائد الصحافة البحرينية عبدالله الزايد، عن تشكيل لجنة إعانة أيتام فلسطين «برئاسة الشيخ عبدالله بن عيسى، وعضوية كل من: الشيخ عبدالله ابن صاحب العظمة الشيخ عيسى، علي بن أحمد آل خليفة، عبدالعزيز العلي البسَّام (أمين الصندوق)، أحمد بن يوسف فخرو، عبدالعزيز بن حسن القصيبي، سلمان الحمد البسَّام، خليل بن إبراهيم المؤيد، خليل بن إبراهيم كانو، محمد الحمد القاضي، قاسم بن محمد كانو، محمد طيب، محمود عبدالنبي، عبدالرحمن بن الشيخ عبدالوهاب الزياني، قاسم بن محمد الشيراوي، يوسف بوحجي، إبراهيم بن علي الجودر، الشيخ اسحاق، عباس بن علي أبوالقاسم، أحمد بن حسن إبراهيم، سيدسعيد، يوسف زليخ، علي بن عبدالله أبل، حسن المديفع، عبدعلي العليوات، محمد العريض، السيد أحمد بن السيد علوي، مهدي الجشي، محمد مكي البحارنة، محمد بن علي السرور، محمد بن إبراهيم الصفار، محمد مبارك فاضل، حسين بن علي يتيم، يوسف بن عبدالله محمود، وعبدالله بن علي آل زائد، وهو سكرتير اللجنة».
وفي هذا الباب أرفق الجاسم جداول تحمل أسماء المتبرعين والمبالغ التي تم التبرع بها؛ إذ أسفرت حملة التبرعات الشعبية الكبرى في العام 1939 عن جمع 1920 روبية هندية، وتبين قوائم 29 يونيو/ حزيران 1939، جمع مبلغ 2013 روبية، أما قوائم 6 يونيو فجمعت 777 روبية، وقوائم 13 يوليو: 828 روبية، كما تم الكشف للمرة الأولى في الصحيفة عن تبرعات نسائية، من خلال حرم الشيخ عبدالرحمن بن عبدالوهاب الزياني، جمعت 133 روبية. وقوائم 20 يوليو 1939 جمعت 879 روبية، وقوائم 27 يوليو 1939 جمعت 499 روبية، وقوائم 13 أغسطس/ آب 1939، ليصل مجموع المبالغ إلى 25720 روبية.
مناضلون من أجل فلسطين
في هذا الباب يشير المؤلف إلى أن عدداً من البحرينيين ساهموا في القتال إلى جانب إخوانهم الفلسطينيين، وذلك من خلال تشكيل قوة رمزية للمشاركة في حرب العام 1948، من بينهم محمد يوسف السيسي «بعد الانضمام إلى الجيش الأردني»، وقبل في الجيش برتبة جندي، وكان التحاقه يوم 21 مايو/ أيار 1946، «وكان سلمان كمال الدين البحريني الوحيد الملتحق بطلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة)». وممن ضحوا بحياتهم من أجل فلسطين الشهيد مزاحم عبدالحميد محمد صالح الشتر، الذي التحق بالمقاومة الفلسطينية العام 1982، «واستشهد مع المقاومة الفلسطينية في لبنان أثناء الاجتياح الصهيوني في 21 يونيو 1982».
الكتاب ممتع ورصين في تناوله، ويسد نقصاً كبيراً في المكتبة البحرينية والعربية، بما انتظم فيه من حوادث وقصص وشواهد على الدور الطليعي الكبير الذي قام به عدد من رجالات البحرين على اختلاف مشاربهم الفكرية والدينية.