كان للبعثة الدنماركية للتنقيب عن الآثار في البحرين بقيادة عالم الآثار الدنماركي ب. ف غلوب (1911– 1985)، ابتداء من بداية خمسينيات القرن الماضي (بدأ أول موسم للبعثة في سنة 1954) دور كبير في دراسة ماضي البحرين وحاضرها على حد سواء.
فعلى صعيد الماضي، تمثل عمل البعثة في التنقيب عن آثار الحضارات الغابرة التي تعاقبت على البحرين خلال أربعة آلاف سنة الأخيرة. وقد كانت النتائج باهرة ومفيدة إلى أبعد الحدود. أما على صعيد الحاضر فقد ضمّت البعثة بين أعضائها فنانين تشكيليين (كارل بوفن) وموسيقيين (بول روفسينغ اولسن) واثنوغرافيين (كلاوس فرديناند)، هذا بالإضافة إلى علماء في مختلف المجالات، من المعنيين بدراسة الحاضر قبل اندثاره.
ومن بين أعضاء البعثة التي انضمت إليها في سنة 1960 بدعوة من رئيس البعثة البروفيسور غلوب، الباحثة الاثنوغرافية هني هارالد هانسن (1900- 1993)، وكانت البعثة تمثل مجتمعاً علمياً متعدد التخصصات والاهتمامات. لكنها كلها تصبّ في اكتشاف البحرين أو «البحث عن دلمون»، كما في عنوان كتاب جيوفري بيبي الرجل الثاني في البعثة الدنماركية، وهو مترجم ترجمة جيدة من قبل أحمد عبيدلي.
المهم أنه في الوقت الذي كان فيه علماء الآثار ينقبون في مختلف مناطق البحرين عن حضارات سادت ثم بادت، كانت الانثروبولوجية هني هانسون تنقب في الحياة الاجتماعية للمجتمع البحريني في مطلع عقد الستينيات من القرن الماضي، من خلال دراسة دورة الحياة في قرية سار، حيث اختارت هذه القرية لمعرفة الحياة كما هي قائمة بالفعل، وقبل غزو التحديث والحداثة، وباعتبارها قريةً منعزلةً إلى حد ما، والحياة الاجتماعية ما تزال تحتفظ بطابعها التقليدي، وتسير على هدي التقاليد والعادات والقيم المرعية منذ مئات السنين.
استقرت هانسن في القرية، وعاشت مع الأهالي، ولاحظت حياتهم من خلال الملاحظة بالمشاركة، واطلعت على تفاصيل دورة الحياة في هذه القرية، وخاصة وضع المرأة، وأقامت صداقات، ومع مرور الوقت أصبحت جزءًا من مجتمع بحثها.
وبعد دراسة حقلية مستفيضة لقرية سار، خرجت الباحثة بأطروحة علمية شاملة لكل مناحي الحياة في هذه القرية، لتمثل نموذجاً للحياة الاجتماعية قبل اكتساح التحديث للمجتمع، وما جلبه التحديث من تغيرات كبيرة بدلت مناحي حياة القرية.
وهي دراسة رائدة وصارمة من الناحية العلمية، ودقيقة في استنتاجاتها مما يدل على تمكن الباحثة ليس فقط من المعرفة المباشرة والحية لحاضر القرية؛ بل معرفتها بتاريخ القرية، لا بل معرفتها ملابسات تاريخ البحرين والمنطقة عموماً.
أجرت الباحثة هانسن الدراسة وهي في عقد الستينيات من العمر، ما يعني أنها في قمة نضجها ومعرفتها، لذلك جاءت الدراسة شاملةً لكل مفاصل دورة الحياة في هذه القرية. وأصبحت هذه الدراسة أحد المراجع المهمة في التعرف على حياة القرى في البحرين قبل أكثر من نصف قرن من خلال نموذج قرية سار.
تناولت الباحثة في دراستها الجوانب التاريخية في القرية، والجوانب الاجتماعية والثقافية والدينية والعادات والتقاليد والنسق القيمي والمناسبات والأعياد والحرف والأدوات، والبيوت وهندستها، والمساجد وتصاميمها وكل مناحي الحياة. إنها دراسة انثروبولوجية رائدة، وتكاد أن تكون شاملة، تمثل في التحليل الأخير أفق الاستشراق الدنماركي الذي كان سائداً في عقد الستينيات، الذي تدفعه روح المغامرة أولاً، والفضول العلمي ثانياً. وهذا ما أكّد عليه غلوب في كثير من أبحاثه.
أما بالنسبة للأطروحة التي أصبحت كتاباً صادراً عن المتحف الوطني الدنماركي سنة 1968، فقد حملت العنوان التالي:
(Investigations in a Shi’a Village in Bahrain) وترجمته الحرفية «تحقيقات في قرية شيعية في البحرين».
لكن الشيء الملفت أن معظم ما تم تدوينه من البعثة الدنماركية منذ موسمها الأول حتى الآن تقريباً، قد تمت ترجمته إلى اللغة العربية، وهذا مفيد بطبيعة الحال للباحثين والمهتمين بتاريخ البحرين خصوصاً والمنطقة عموماً، لكن بالنسبة لدراسة/ كتاب هانسن عن قرية سار وعلى أهميته ومع مرور قرابة نصف قرن على نشره باللغة الانجليزية، لم يترجم لحد الآن، ولا ندري ما السبب. والمتداول منه باللغة الانجليزية قليل جداً، ولا يفي بالغرض للعموم، ما يعني افتقاد المكتبة الاثنوغرافية/ الانثروبولوجية المتعلقة بالبحرين مصدراً ومرجعاً مهماً ثرياً بمعلوماته الحقلية واستنتاجاته العلمية، وهو ما لا يتناسب والاهتمامات البحثية الآخذة في الازدياد عن انثروبولوجيا البحرين عموماً والقرى خصوصاً.
إن كتاب هانسن مصدر أساسي للإنطلاق منه في دراسات انثروبولوجية حديثة، لذلك فإن عدم ترجمته يعد خسارةً، أو على أقل تقدير تحجيم فائدته في أضيق نطاق ممكن، وهذا ما لا يجوز في بحثٍ بهذه الأهمية العلمية والمعرفية والتاريخية عن البحرين.
هذه مجرد عجالة للتذكير بهذه الدراسة المهمة والرائدة لحياة قرية بحرينية قبل أكثر من نصف قرن، من قبل باحثة جادة حاولت أن تدرس ممارسات الحياة اليومية بحياد، وفي نفس الوقت أقامت علاقات إنسانية مع الأهالي، حيث كان الود والحب متبادلاً بين الطرفين. ولشدة حب الباحثة لأهالي القرية أوصت ابنتها بزيارة هذه القرية من باب الامتنان والتعبير عن مدى الحب الذي تكنّه لهذه القرية. فقد كانت تحتفظ في ذاكرتها إلى جانب الذكريات العلمية، بذكريات شفافة وإنسانية تجاه قرية سار وخاصة نسائها.
والمطلوب أخيراً من الجهات المعنية بالترجمة، ضرورة ترجمة هذا الكتاب، المرجع النفيس، ليكون في متناول الجميع أسوةً بالأبحاث الأخرى، وبعضها ليس في مستواه وقد ترجم، ولا ينبغي التأخير في ذلك مهما تكن المبررات.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 4987 - الإثنين 02 مايو 2016م الموافق 25 رجب 1437هـ
مقال رائع
شكرا لك
دكتور خالد
أقل ما يُقال شكراً، لك منّا جزيل الثناء، نرجوا التركيز على هذا الجانب ( المُهمل ) ....