من مفارقات عصرنا الراهن أنه في الوقت الذي تتسيد فيه الدول المتقدمة الصناعية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، المجتمع الدولي وتعيب على البلدان النامية تخلفها وتدني وعيها الحي والبيئي وانعدام النظافة فيها، فإن تلك الدول المتقدمة هي نفسها المسئولة بالدرجة الأولى عن تلوث كوكبنا برمته، وإن شئنا بتعبير أكثر دقةً شركاتها الكبرى المتعددة الجنسية، والمتغلغل نفوذها في دوائر صنع القرار؛ بل وقبلاً في تمويل من يصل إلى السلطة كما هو الحال بشكل أو بآخر في أغلب الديمقراطيات الغربية.
بهذا المعنى فإن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في باريس خلال (نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) والذي تم تصديق أكثر من 170 دولة عليه في مقر الأمم المتحدة قبل بضعة أيام خلت، ليس سوى حصيلة توازنات دولية ترجح مصالح ونفوذ القوى العظمى على حساب مصالح وحقوق شعوب الكرة الأرضية كافةً. فهو يستجيب في المقام الأول لمصالح شركاتها الكبرى غير الخاضعة للانصياع للتشريعات الوطنية والدولية حيثما جاءت متصادمة بقوة مع مصالحها الأنانية الضيقة، فالاتفاقية بالإجمال أشبه بمواثيق الشرف الدولية، إن جاز التعبير، أكثر منها أداة تشريعية فعلية إلزامية ضاغطة على الدول الغربية الكبرى لخفض الانبعاثات الحرارية، وقد صُورت مراسم التوقيع عليها، وكأنها عرس بيئي دولي بينما هي تكاد تُعيد مهزلة اتفاق كيوتو الذي صدقت عليه هذه الدول الأكثر تلويثاً لكوكبنا ثم وُضع بروتوكول «كيوتو « العام 1997 لفرض الإلزام على كل الدول الموقعة عليه؛ لكن سرعان ما تنصلت الدول الكبرى من تبعات تنفيذه أو الانسحاب منه، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي انسحبت منه بالكامل، وبالتالي كان من الطبيعي ان تقتفي أثر هذه الدول الكثير من الدول النامية. وبالطبع لا توجد في الاتفاقيتين، السابقة والجديدة، أي مبدأ يضمن منع الدول الكبرى الملوثة لكوكبنا من الإفلات من العقاب أو لملاحقة شركاتها الكبرى دوليّاً في ظل غياب القضاء الدولي المختص على شاكلة محكمة الجنايات الدولية أو محكمة العدل الدولية، فنحن نعيش في عالم تختل فيه موازين العدالة الدولية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة، وتسوده ازدواجية المعايير أو الكيل بمكيالين، تماماً مثلما أعطت هذه الدول لنفسها حق احتكار الأسلحة النووية، ومصادرتها من أية دولة ما لم تتمكن من فرض عضويتها في «النادي النووي» كباكستان والهند، أو تحظى بمحاباة قوة عظمى كما تفعل الولايات المتحدة تجاه «اسرائيل».
يشير المدير التنفيذي لمجموعة بريتش بتروليوم اللورد جون براون، في مقال له في مجلة «Foreign Affairs» عدد (يوليو / تموز 2004)، (لا تتوافر لدينا معطيات حاليّاً عما إذا مازال محتفظاً بهذا المنصب) إلى أن درجة حرارة كوكبنا ارتفعت 0.6 درجة مئوية منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وأن الربيع يحل الآن عالميّاً أبكر بأسبوع مما كان أواخر سبعينات القرن الماضي، وإن إزالة الغابات في المناطق المدارية من أسباب تغير المناخ، وتأثير الانبعاثات الغازية الحرارية، فإلى أي مدى ينطبق هذا الكلام على بيئتنا البحرينية التي شهدت بدورها تغيراً مناخيّاً لافتاً في الفترة نفسها، أي منذ أواخر السبعينات إلى يومنا إثر توسع عمليات التجريف الواسعة النطاق للأراضي الزراعية بغية اخضاعها للمضاربات العقارية والاستثمارية؟ وأتذكر جيداً كنا قبل ذلك لا نفتح المكيفات إلا مطلع (مايو / أيار) من كل عام، فبتنا نفتحها في أيام متفرقة من (فبراير/ شباط) ثم في معظم شهر (مارس / آذار)، وأخيراً غدونا نفتحها في (إبريل/ نيسان) بكامله تقريباً، وكأنه شهر صيفي لا ربيعي!
ومن المفارقات الساخرة أن الباحث اللورد جون برون الذي يشغل الرئيس التنفيذي لـ «برتش بتروليوم» أضحت شركته نفسها بعد سنوات من كتابته ذلك المقال الشهير متهمة بكارثة إغراق مياه خليج المكسيك بالنفط الخام الأسود إثر انفجار احدى المنصات التابعة لها العام 2010، وهي الكارثة التي وصفها الرئيس الأميركي اوباما بأنها الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة وخاصة بعد محاولة الشركة معالجتها بمادة كيماوية لتشتيت بقع الزيت الطافحة على سطح البحر، ما أدى الى مضاعفة هلاك ثروة هائلة من الكائنات البحرية من بينها الروبيان على طريقة «بيكحلها عماها»، وهذا ما بيّنه بجلاء فيلم وثائقي أميركي شاهدته قبل بضعة أشهر، بينما حاول الكاتب إغفال دور الشركات الكبرى في تلويث كوكبنا ملمحاً إلى أن التلوث ضريبة لا مفر منها للتقدم العلمي والتكنولوجي العالمي.
والحال لا يمكن وضع حد للتدهور البيئي المتفاقم الذي تشهده كرتنا الأرضية منذ نحو ثلاثة عقود إلا من خلال إطلاق أكبر حملة شعبية عالمية تفضح دور الشركات الكبرى في تلويث كوكبنا، بحراً وجوّاً وبرّاً ، وتلزم الدول الصناعية الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بالانصياع الكامل للاتفاقيات الدولية الخاصة بالبيئة والمناخ، وهذا لن يتأتى بطبيعة الحال إلا من خلال إصلاح الأمم المتحدة التي تهيمن على إرادتها الدول الكبرى، وقبل ذلك يتطلب الأمر اصلاحات تمثل الإرادة الشعبية الحقة، والتمثيل الصحيح الأكثر ديمقراطية في الدول الغربية بوجه عام والدول النامية بوجه خاص، ولو بالحدود الدُنيا لهذه الأخيرة مقارنة بالأولى.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4987 - الإثنين 02 مايو 2016م الموافق 25 رجب 1437هـ
احنا كلّنا نلوثه
الفاسدين بالارض هم من يلوثها , الي حتما لا ريب لهم نهاية .