سُمِّيَت أوروبا بـ «القارة العجوز» ربما بسبب كثرة الكهول فيها، أو لِقِدَم الحضارات بها. وإذا ما أردنا الحقيقة، فإن هذين الأمرين مُتحققان في إفريقيا (قبل أوروبا) التي ظهر في واديها المتصدّع الإنسان الأول، لكنها سُمِّيَت بـ «القارة السمراء»! وربما ينطبق الحال على قارة آسيا كذلك.
في كل الأحوال، فإن هذه القارة العجوز التي وصل نفوس ناسها اليوم إلى 500 مليون إنسان ربما تشهد تحوُّلات سياسية واجتماعية قد تُغيِّر وجهها بالكامل. هذه التحولات قائمة على ثلاثة مواقف. الأول: الموقف من الشرق الأوسط. الثاني: الموقف من الإسلام. الثالث: الموقف من الإنجاب.
هذه التحولات تحتاج إلى رافعة سياسية أوروبية. وهذه الرافعة لن تكون إلاّ عبر الأحزاب اليمينية المتطرفة والموسومة بـ «الشعوبية». قد يرى البعض (ومن منطلق ذاكرة استصحابية) أن هذه الأحزاب لاتزال صغيرة وغير فاعلة، لكن الحقيقة التي وصلت إليها أوروبا أنها ليست كذلك.
دعونا نرصد ما جرى بهدوء في أوروبا كي نكتشف ذلك. «حزب البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف حصل على 14 في المئة «من نوايا التصويت في استطلاعات الرأي» وأصبح مُمَثلاً في البرلمان الأوروبي ونصف برلمانات ألمانيا المحلية.
في فرنسا الحال كذلك بل وأكثر تجذراً. قبل عام نالت الجبهة الوطنية الفرنسية اليمينية نصراً مؤزراً بنيلها 28 في المئة من أصوات الفرنسيين، إلى الحد الذي عضّ الاشتراكيون والجمهوريون أصابعهم ندماً وهم يرون مقاعدهم في مرتبة ثانية وثالثة. نال اليمينيون كل ذلك على أثير معاداة الأسلمة والأجانب مع ضرورة استقلالية فرنسا عن سياسات أوروبا المحابية للأميركيين.
في بريطانيا ظنّ البعض أن المقعد الوحيد الذي ناله «حزب الاستقلال» ذات التوجهات القومية واليمينية يعني أنه حزب متهالك، إلاّ أنهم يتناسون أن تلك قِسْمة غير حقيقية بفعل قانون الأغلبية الانتخابي المتبع هناك، وأن الحزب المذكور (وحده) قد نال 13 في المئة من أصوات الناخبين.
في النمسا لم يرحل يورك هايدر في العام 2008 إلاّ واليمين فيها قد تجذّر أكثر. فـ «حزب الحرية» المتطرف فاز في الانتخابات الرئاسية في الضربة الأولى بعد أن قَطَفَ مرشح الحزب نوربرت هوفر 35 في المئة من الأصوات هناك. إنه يقول: «لا نريد إلاّ النمساويين الأصلاء» ويرفض منح الجنسية واللجوء. لقد صوّت له الشباب والكهول والكَسَبَة ومنتسو النقابات العمالية فأنجحوا اسمه وبرنامجه.
في المجر يتنمّر الحزب اليميني الذي يتزعّمه فيكتور أوروبان، الذي بات يحكم البلاد منذ ستة أعوام، يعاضده حزب يميني ثانٍ هو «حركة مجر أفضل»، وهو القوة الثالثة في البرلمان. لقد عَكَسَ هؤلاء موقف المجر الحقيقي من لاجئي الشرق، عندما سيَّجوا أرضهم كي لا يدخل إليها أولئك العطشى والهائمين على وجوههم أو حتى يعبروا من خلالها إلى أوروبا، فازدادت شعبية اليمين أكثر فأكثر!
في بولندا، يلعب الأخَوَان لِيش وياروسلاف كاشينسكي دوراً محورياً في السياسات والإجراءات اليمينية عبر «حزب القانون والإنصاف». هدفهما الأساس هو إبقاء بولندا بعيدة عن أي تغييرات اجتماعية قد يقوم بها الضيوف المنبوذون من اللاجئين المسلمين. وحتى عندما جاء رجل من أتون الصخب والغناء وأسّس حزباً ذات ميول يمينية أيّده البولنديون وأصبح ثالث أقوى تيار في البرلمان.
في الأراضي الواطئة حيث الهولنديون الذين لم يُسمَع لهم صوت منذ انكفاء إمبراطوريتهم قبل قرون، باتت هناك أصوات يمينية متنامية. فون غيرت فيلدرز المتزعم لـ «حزب الحرية» أصبح القوة الخامسة في البرلمان. والاستطلاعات الواردة من أمستردام تشير إلى أنه قد ينال 30 في المئة من الأصوات في الانتخابات، ما يعني تضاعف قوته ثلاث مرات دفعة واحدة! والشعارات هي ذاتها!
حتى الدنمارك بات لليمينيين فيها صوت معتبر. فـ «حزب الشعب الدنماركي» هو القوة الثالثة في البرلمان. وعندما رفع شعاراته ضد اللجوء والإسلام ذهب أزيد من 21 في المئة من الناخبين الدنماركيين ليعطوه أصواتهم، ليُعاضد بذلك شريكه في الشعور والشعار «الحزب اليميني الليبرالي».
الأمر ذاته ينطبق على دول أوروبية أخرى كالسويد وإيطاليا واليونان وغيرها. ما يهم من كل ذلك والتي تعمّقت في تتبعه الـ «دي دبليو» الألمانية، هو أن نعرف ونربط تلك التطورات كي نتنبأ بما «قد» يحدث لهذه القارة العجوز وسياستها من الشرق الأوسط، بالإضافة إلى التعدد الثقافي (ويعنون به وجود الإسلام في مجتمعاتهم) والحالة الاجتماعية لأوروبا القائمة على إعادة النظر في أمر الإنجاب.
قبل فترة قرأت لرئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الألماني نوربرت روتجين مقالاً في الـ «نيويورك تايمز» يتحدث فيه بصراحة عن ضرورة تغيير سياسات أوروبا مع دول الشرق الأوسط. أهم ما قاله هو ضرورة التقرب من المجتمعات المسلمة التي تشعر بالتهميش والتي يكثر بها الشبان. لأنه يعتقد أن مشاكل الديمقراطية والحريات العامة تؤثر بطريقة ما على استقرار أوروبا. وهو يشير صراحة إلى التجربة الديمقراطية في تونس وكيف يمكن البناء عليها وتعميمها.
لكن الأوروبيين يربطون ذلك بمصالحهم المتعددة. هم لا يريدون فعل ذلك فقط ليمنعوا اليأس كي لا يتسرّب إلى الشباب في الشرق الأوسط وبالتالي يدخلون أو يتعاونون مع تنظيمات عنفية أو يتعاطفون معها على أرضهم، بل يريدون كذلك أن يجعلوا ذلك «الازدهار» مانعاً أمام الرغبة في الهجرة إلى أوروبا. ويشيرون في ذلك تحديداً إلى مسألة الحد من تنامي الإسلام القادم عبر الهجرة.
أما الأمر الآخر الذي باتوا يفكرون فيه فهو إعادة النظر في مسألة التوازن الديمغرافي عبر ضرب ثقافة العوائل المنفردة والصغيرة في أوروبا (والتي أدى لأن تشيخ) لصالح الأسر الأكبر أو السلالية، كي تتشبّب القارة ولا تكون محتاجة إلى شعوب مهاجرة إليها تختلف عنها ثقافياً.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4986 - الأحد 01 مايو 2016م الموافق 24 رجب 1437هـ