ما إن تغيب لفترة معينة حتى تعود مرة أخرى قضية العلمانية، وموقف كل طرف منها، في بعض الأحيان تكون الإثارة مفتعلة أو لمجرد التحذير أو تحجيم شخصيات معينة، في حين تكون في أحيان أخرى قضية مفصليَّة لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها، وخصوصاً إن كان ذلك في مرحلة إصدار قانون ما أو التصديق على معاهدات دولية، كما حدث خلال طرح قانون الأحوال الشخصية في الشق الجعفري في الحالة الأولى أو ما طرح من ملابسات حول تحفظات مملكة البحرين على اتفاقية «السيداو» مؤخرًا في الحالة الثانية.
ومع ذلك، فإن الموقف من فكرة العلمانية والقوى العلمانية في المجتمع تتباين بين طرف وآخر، فهنالك بعض الأطراف ترى أنها قضية مفصلية لا يجب تجاهلها، وأن المواجهة يجب أن تكون دائمة ومستمرة، في حين ترى أطراف أخرى أن هذه المسألة وإن كانت ملحة ولا بد من مواجهتها في يوم من الأيام إلا أنها تبقى مسألة مؤجلة، إلا في الحالات الطارئة، في حين تتخذ القوى العلمانية نفسها موقفا غالبا ما يكون في موقع الدفاع وعدم المواجهة حتى في اللحظات والمواقف الحرجة ليس بدافع الانتهازية السياسية وإنما بدافع العمل من أجل إنجاز الأولويات الملحة أولاً، وبعد ذلك لكل حادث حديث.
ومهما اختلفت التفسيرات حول العلمانية، لكن الغالب الأعم يرى أنها فصل الدين عن الدولة، ما يعني أن تكون الدولة غير متبنية لدين معين أو مذهب معين وألا تحابي المواطنين وتجزل لهم العطاء لمجرد أنهم من دين معين أو مذهب معين.
في المقابل يرى المعارضون للعلمانية أن التشريعات والقوانين يجب أن تكون مستمدة من الدين الإسلامي، ويجب أن يكون الدين الإسلامي هو المصدر الوحيد لجميع التشريعات الوطنية، كما يجب عدم الأخذ بأي تشريع أو قانون لا يكون مستمدًّا من الشريعة الإسلامية مهما يكن مصدر أو الحاجة لهذا التشريع.
في واقع الأمر فإنه لا توجد في الوقت الراهن دولة عربية واحدة تقتصر في تشريعاتها على الدين الإسلامي، كما لا توجد دولة عربية واحدة تطبق مبدأ فصل الدين عن السياسية وتتخذ من العلمانية نظامًا أساسيًّا لإدارة الدولة، فأغلب دساتير الدول العربية تشير إلى أن الدين الإسلامي هو «المصدر الرئيسي للتشريع» أو «أهم مصادر التشريع» ولا توجد دولة عربية واحدة تضع في دستورها أن «الدين الإسلامي هو المصدر الوحيد للتشريع»، وذلك لسبب مهم وهو أن جميع الدول العربية أدخلت قوانين وتشريعات أجبرت عليها من خلال المعاهدات الدولية وخصوصا ما يتصل بتجريم العقوبات البدنية وتحريم الرق والعبودية والاتجار بالبشر، وبذلك استعيض في معظم القوانين في الدول العربية بالسجن بدلاً من الجلد أو قطع يد السارق أو الرجم وغيرها من العقوبات الجسدية.
ذلك من الناحية المتصلة بالقانون الجنائي، أما فيما يخص النظام السياسي فإنه لا يمكن إثبات أن النظام الديمقراطي وتشكيل البرلمانات وفصل السلطات هي تشريعات إسلامية محضة، وحتى في القوانين التجارية، فهناك قوانين تحكم عمل البنوك التجارية أو «الربوية» والشركات المساهمة والخاصة.
وبذلك لا توجد دولة إسلامية واحدة تطبق فيها الشريعة الإسلامية بشكل خالص، وإنما هنالك مزيج من أحكام وتشريعات سماوية وأخرى وضعية من صنع البشر، ما يعني أن هنالك درجة من العلمانية تطبق في هذه الدول حتى ولو بجزء بسيط جدًّا، وأن هذا الجزء يكبر يومًا بعد يوم.
إن هذا الطرح لا يمكن أن يمس العقيدة الإسلامية في أي حال من الأحوال أو ينتقص منها، فكما جاء في الحديث الشريف «أنتم أدرى بشئون دنياكم» حتى وإن قصر البعض هذا الحديث على حادثة معينة عندما سأل بعض الصحابة عن مواسم الزرع والحصاد، فإن الحديث قد جاء في العموم وبشكل مفتوح على كل عصر وكل زمان (وللحديث بقية).
إقرأ أيضا لـ "جميل المحاري"العدد 4985 - السبت 30 أبريل 2016م الموافق 23 رجب 1437هـ