من البداية وما يقترب من منتصف التجربة، تطلُّ الشاعرة البحرينية فاطمة محسن، بذلك التجلِّي، والقدرة على تجاوز تجربتها بشكل لافت. منذ مجموعتها الأولى «أسقط منك واقفة»، والتي صدرت في العام 2007، ووقوف هذا البورتريه عند مجموعتها «يرقصان على جنوني»، لا يعدم المرء القدرة على تحسُّس الفارق الذي أتاح للتجربة باختمارها نأياً عن إعادة إنتاج القاموس والمُفردة والصورة والمجاز، والقلب مما تراه وترصده؛ قفزاً إلى المبتكَر والجديد، وقبضاً على الدهشة في نص يظل مفتوحاً على التأويل.
تُقاس التجربة بالفارق الزمني أحياناً، ومنها يُمكن للشاعر نفسه أن يقف على الفارق في تجاوز التجربة، أو المراوحة. القارئ الفطِن هو الآخر يملك تلك الحاسَّة إذا كان لصيقاً بالتجربة على مستوى تشكُّلها وبروزها - زمنياً - وكل تجربة لا تقدِم ما يعكس الخبرات والنضج بتحقيق قفزات على مستوى بناء النص ومضامينه، شهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، فهي من دون شك تعاني من خلل ما، إن لم يكن خللاً فادحاً. وأحسب أن فاطمة محسن نأت بنفسها عن طامَّة إعادة إنتاج نصِّها بكل حمولاته ولغته، انحيازاً إلى المُبتكر والجديد واللافت.
عن فكِّ الأحاجي... بلوغ النهر الذي لا ضمانة أنه هناك. بائعة العنصر الأهم... بائعة الماء... الخريطة التي قد تُوصل إلى الضلال الجميل... عن باب القلب المشغول بعذاباته والوجع. عن الحريق الذي يُعيد ترتيب جنة وخضْرة العالم، تكتب في «أسقط منك واقفة»: «أفك الأحاجي/ وأسأل بائعة الماء/ كيف الوصول لنهرك/ تسألُ هل من حريق/ فأفتح قلبي/ وأرسم خارطةً للحروف».
في الانحياز للإيقاع فرصة لتأمُّل نصوص مشغولة بإيقاعها الداخلي، ذلك الذي تحدِّد مساراته وتجانسه مع المفردة وهي مدفوعة في المقطع الشعري الكثيف في دلالته، وقدرة على ضخ الصور والمجازات. مقابل ذلك، يظل النص المخفور بإيقاعه الظاهر أكثر قدرة على إيجاد حال من الغنائية الباعثة على الانسجام والتوحُّد مع النص.
عن السحابة في تيْهها وغواية الماء. عن الصلوات المؤجَّلة بالأثر. عن رجفة إيقاع تهتز له فرائص الروح. عن حكايات الصباح المُمَهَّدَة بالمراوغة. عن تسمية الجفاف وعلامات الريح. عن الوحشة تُعيد ترتيب الحيِّز. تكتب في مجموعتها «يرقصان على جنوني»: «سأجعل صلواتي سحابة بين صخرتين/ وسترتجف الموسيقى من أنَّة قضبانك/ تأخذ معك كل شيء/ ويأخذ القضبان حكاية الصباح/ هي رحلة المدن فتهيَّئي للصراخ/ ألوذ بالجفاف/ والريح تمسك بالوحشة/ فبماذا تلوذين».
السحابتان بين صخرتين تأخذنا إلى منشأ علْوي وآخر أرضي. تأخذنا إلى عجزنا النبيل في كثير من الأحيان. إلى قسوتنا الضرورية، الحب صورة من تلك القسوة، بمآلاته والوجع الذي لن يحيا بعيداً عن نزْفنا.
كيف يُمكن لأي منا أن يعتنق الشعر طريقةً ونظراً وأسلوب حياة؟ هل بإعادة إنتاج الساذج مما تمكّنا من الإمساك به؛ أم بالطريقة التي لا نلجأ فيها إلى خرائط تحدِّد موقعنا في هذا العالم؟ الخرائط تفضح الجهات قبل أن تفضح الذين يلوذون بها.
ولأننا لا نحتاج إلى خرائط في ذهابنا إلى الشعر أو في ذهابه إلينا، نظل متمسكِّين بذلك الضلال والتيه الذي يمهِّد لنا جنة الغواية. الغواية منزوعة الأسى! الأسى الذي يعيدنا إلى ما افتقدناه من الرشْد. الرشْد الذي يعني في بعض المقامات، مزيداً من التيه!
فاطمة محسن: شكراً للصلوات، للسحابة، للصخرتين وأكثر، للموسيقى التي تهبنا التوازن الضروري. لحكايات الصباح التي لن تكتمل. للمدن المليئة بالصراخ الذي لن ننجو منه. بالوحشة الرابضة. بالأحاجيُّ التي تعيد ترتيب غموضنا هذه المرة. بالماء الرحيم. بالخرائط التي تُوصلنا إلى الكمائن.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4984 - الجمعة 29 أبريل 2016م الموافق 22 رجب 1437هـ
فاطمه محسن مبدعه وصاحبة احساس مرهف بالشعر