لقد سبق أن تناولنا في سلسلة مواضيع سابقة، الثقافة المرتبطة بالزراعة، وتطرقنا فيها إلى عملية ري الأراضي الزراعية. يذكر، أن هناك العديد من المعارف التي ترتبط بعملية الري، وهي معارف لم نتطرق لها بالتفصيل، منها عمليات توقيت عملية الري، وطرق تقسيم مياه الري، والعمليتان السابقتان متداخلتان، وتعتمد على وجود نظام توقيت دقيق. ليست هذه العمليات فقط التي كانت تحتاج إلى عملية توقيت دقيقة، بل كانت في المجتمع البحريني القديم العديد من المهن التي تحتاج إلى توقيت دقيق، كعملية صيد الأسماك، وخصوصاً عملية مباراة الحضرة، أي جمع السمك من الحضرة, فهي تحتاج لتوقيت زمني دقيق كتقسيم العام إلى مواسم، وكذلك تقسيم اليوم الواحد لمعرفة مواعيد المد والجزر، وقد سبق وتناولنا ذلك بالتفصيل في سلسلة مواضيع حول طرق صيد الأسماك.
كذلك عملية ري الأرض تحتاج لتوقيت دقيق، وتأتي أهمية الوقت في هذه العملية من ناحيتين، الأولى في تقسيم حصص المزارعين من مياه العيون الطبيعية، أو قنوات الري، وكذلك، توقيت عملية الري داخل المزرعة الواحدة، لكل جزء من المزرعة. وتسمى عملية عملية الري عند العامة في البحرين بعملية لتسِگي (أي السقاية), والذي يقوم بالعملية يسمى لمسِگي, ومن المصطلحات التي لم تعد تستخدم وتدل على توقيت عملية ري النباتات هو مصطلح «التزييم» ومنها الفعل «زيَّم», ويبدو أن هذا المصطلح كان مرتبطاً بعملية السقاية قديماً حيث كان يخصص وقت معلوم لكل أرض تسقى فيها وهو نظام «الوضح», وقد أشتق الاسم من «زام» وتعني نوبة عمل ومنها نظام «الزامات» أي نوبات العمل (Holes 2005, p. 58). وقد ذكرت لفظة «زام» في المعجم الوسيط (هو معجم عربي حديث من إصدار مجمع اللغة العربية بالقاهرة)، وجاء في مادة (زام) من هذا المعجم: «(الزَّامُ)، الرُّبْع من كلِّ شيء. يُقال: مضى زامٌ من النهار أَو الليل: رُبْع منه. ومضى زامان منه: نصفه».
نظام التوقيت القديم
إذاً, فقد كانت هناك حاجة ملحة للتوقيت الزمني؛ وعليه، لابد لشعب البحرين القديم نظاماً معيناً من التوقيت الزمني, إلا أن تفاصيل ذلك النظام لم يصل لنا بتفاصيله. ومن خلال البحث في الذاكرة الشعبية لا نمتلك سوى بعض الترسبات التي تعكس وجود نظام قديم في تحديد الأوقات والذي كان شبيهاً بذلك النظام الذي كان سائداً عند البابليين في حضارة الرافدين, والذي يعرف بالنظام الغروبي؛ حيث يبدأ اليوم من لحظة غروب الشمس (Smith 1969). أما تقسيم اليوم، فيعتمد بالنهار على حركة الشمس وتغير طول الظل، أما بعد غياب الشمس فكان يعتمد على الفلك. يذكر، أن هناك صعوبة في تقسيم الوقت بعد غروب الشمس باستخدام الفلك؛ ولذلك تطورت طرق حساب الوقت ليلاً، واستخدمت علامات أخرى بارزة، مثل، صياح الديك، الذي كان له صياح قيل إنه ثابت، في مواعيد محددة ليلاً. أما بعد ظهور الساعات الحديثة ذات العقارب فقد أستخدم التوقيت العربي؛ حيث يتم ضبط الساعة يومياً عند غروب الشمس على الساعة الثانية عشرة، ويعتبر هذا الوقت وقت بداية اليوم.
ومن خلال بعض المصطلحات المترسبة في الذاكرة الشعبية في البحرين، ومقارنة هذه المصطلحات عند شعوب أخرى مجاورة، يمكننا إعطاء تفاصيل لنظام التوقيت القديم.
أولاً: تقسيم ساعات الليل
توجد عدد من المسميات للساعات الواقعة بين غروب الشمس وحتى شروقها، وهي كالآتي:
1 - بداية اليوم: سلوم الشمس
في التوقيت العربي تعتبر لحظة الغروب هي الساعة الثانية عشرة, وتسمى لحظة الغروب في اللهجة البحرانية «سلوم الشمس» ويقال أسلمت الشمس أي غربت, وهو مصطلح ضارب في القدم فهو مصطلح أكدي بمعنى غروب الشمس, ففي اللغة الأكدية شُلُم شَمشِ šulum šamši أي غروب الشمس (CAD 2004, v. 17, part 1, p. 336). ويبدأ عنها المغرب، والذي ينتهي عند مغيب الشفق الأحمر.
2 - ساعات الليل
يبدأ الليل بعد عند مغيب الشفق الأحمر، وينتهي عند بداية الفجر. وقد تم تقسيم الليل إلى قسمين أساسيين، النصف الأول، والذي حددت نهايته بصياح الديك الأول المسمى صياح ديك الحردانة، ثم النصف الثاني الذي ينتهي بصياح الديك الثاني الذي يعرف بصياح ديك الفجر.
3 - منتصف الليل وصياح ديك الحردانة
لم تكن الشمس هي العلامة الوحيدة فقد ربطت بعض الساعات بظواهر معينة من أهمها صياح الديك الذي يصيح مرتين واحدة في الساعة الرابعة بالتوقيت العربي أو بعد مرور أربع ساعات من غروب الشمس وتعرف هذه الصيحة بصيحة «ديك الحردانة» حيث إنه في هذا الوقت لا يخرج أحد للطريق فتغتنم الفرصة الزوجة «الحردانة» (التي تخاصمت مع زوجها وعادت لبيت أبيها) لتعود لبيت زوجها, أما صيحة الديك الثانية فتكون قرب الفجر. يروي لي بعض العامة قصة ديك الحردانة باستحياء, وعند البحث في الذاكرة الشعبية لشعوب عربية أخرى نجد المصطلح ذاته يستخدم في تسمية الساعة الرابعة بالتوقيت العربي في التراث الشعبي الفلسطيني. على رغم أننا لا نجد تفاصيل أخرى عن تقسيم اليوم في الذاكرة الشعبية إلا أن هذه الترسبات البسيطة في الذاكرة الشعبية تجعلنا نتساءل عن أصالة هذا الشعب وجذوره الضاربة في عمق التاريخ.
4 - الفجر وصيحة الديك الثانية
ويبدأ الفجر مع طلوع الفجر الصادق وهو يتزامن تقريباً مع صيحة الديك الثانية، ويبدأ الصباح مع شروق الشمس، بعد ذلك يبدأ استعمال الساعة الشمسية بحسب طول الظل.
ثانياً: تقسيم ساعات النهار
أما الجزء الثاني من الساعات، والتي تقع بين شروق الشمس وحتى غروبها، فتقسم إلى عدة أقسام، وتبدأ بالصباح الذي يبدأ مع شروق الشمس، ولا يستمر كثيراً، ويليه وقت الضحى الذي ينتهي مع دخول الظهيرة عند أقصر ظل خلال النهار وذلك لحظة بلوغ الشمس أقصى ارتفاع لها، وينتهي وقت الظهر عندما يصبح طول الظل مساوياً لطول الجسم، يبدأ بعده وقت العصر، الذي ينتهي عند دخول المغرب، والذي يبدأ عند زوال قرص الشمس، وبغيابها ينتهي اليوم ويبدأ يوم جديد.
ظهور التوقيت العربي
منذ قرابة القرن الثاني عشر الميلادي, وبعد ظهور الساعات، طور العرب عدداً من الساعات المائية، والتي يكون فيها بداية اليوم مع غروب الشمس. هذا, وقد كانت الساعات العربية المبكرة تعتبر بداية اليوم مع أذان صلاة المغرب أي بعد غروب الشمس، وكانت تلك الساعات تقسم إلى ساعات غير متساوية وتختلف يومياً، وذلك بحسب طول الليل والنهار (لمزيد من التفاصيل حول هذه الساعات ينظر هيل 2004، ص 169 – 191). وبعد تطور الساعات، وظهور الساعات الصغيرة ذات العقارب، تم تطبيق نظام الساعة العربية عليها، حيث يتم تعديل عقارب الساعة على الثانية عشرة مع غروب الشمس وهي بداية اليوم، فعندما يقولون الساعة الرابعة عربي ليلاً، أي أنها مرت أربع ساعات على غروب الشمس أو أربع ساعات على بداية اليوم الجديد. وتسير عقارب الساعة حتى غروب الشمس فيتم تعديلها مجدداً كلما تغير وقت غروب الشمس.
مما سبق، يلاحظ أنه كان يوجد نظام توقيت دقيق في البحرين قديماً، والذي كان يعتمد على ضوء الشمس وزوال الظل والفلك وظواهر أخرى. وقد تم توظيف هذا النظام في عمليتي الري وعملية تقسيم مياه الري، وسنتطرق في الحلقات المقبلة لتلك العلميات بالتفصيل.