بصدور «قصيدة سجن ردنج» للشاعر والمؤلف المسرحي الإنجليزي الأيرلندي أوسكار وايلد (16 أكتوبر/ تشرين الأول 1854 - 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1900)، التي تصدَّى لترجمتها الباحث والأكاديمي والمسرحي والناقد البحريني محمد الخزاعي، تتراكم التجربة وأهميتها، من خلال الاصطفاء والاختيار الذي يعمد إليه، ضمن مشروع يبحث عمَّا يحقق إضافة نوعية إلى المكتبة العربية في هذا المجال.
ليس إطلاقاً للأحكام جزافاً، حين يرى كثيرون في الخزاعي، رائداً من روَّاد الترجمة في البحرين والمنطقة، بالدقة والضبط الذي عُرف بهما طوال ما يقرب من 3 عقود، بذلك الانكباب واصطفاء الأعمال المهمة، سواء كانت من عيون الأدب العالمي، أو العربية التي وجد فيها ما يستحق أن تخرج من دائرة المكان الضيِّق إلى رحابة وانتشار وامتداد اللغة الإنجليزية، والتي هي من دون شك مفتاح وأداة أولى وضرورية للاندماج في هذا العالم بجهاته الأربع، كونها الممسكة بعصب اقتصاد واجتماع، وسياسة العالم في الوقت نفسه.
الجهود التي بذلها الأكاديمي الخزاعي حاضرة ومؤثرة بكل تلك التنويعات فيما يختار، وأزعم أنه لا يتصدَّى لترجمة كتاب أو نص، ما لم يكن هدفه سد فراغ في المجال والفضاء نفسه، بحيث يسهم ذلك الجهد في إغنائهما وإثرائهما. يمكننا الوقوف على جهوده في مجال الترجمة من خلال العناوين الآتية: «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل (1994)، «الأختام الدلمونية» لخالد السندي (1999)، «دلمون... تاريخ البحرين في العصور القديمة» لبيتر كورنوول (2000)، «بقايا الفردوس: آثار البحرين 2500 ق م - 300م» (2002)، «أيام يوسف الأخيرة» لعبد القادر عقيل، «البحرين في القرن السادس عشر: جزيرة حصينة» لمونيك كرفران (2004)، «أيقظنتي الساحرة» لقاسم حداد (2004)، «من بدايتنا إلى يومنا الحاضر...» لنانسي خضوري (2007)، «الأسطورة والتاريخ الموازي: الجزء الأول لمي آل خليفة (2008)، «رابعة الساحرات ومقالات مختارة» (2008)، «بداية البدايات: دراسات ومقالات مختارة» (2010)، «البحار العجوز» لصموئيل كولردج، (2010)، «المعطف والأنف» لنيكولاي جوجول، (2013)، «عباس الموسوي وألوان البحرين» لدنيس أودواير»، (2013)، وغيرها؛ علاوة على «دراسة لتطور بدايات أدب المسرح العربي» (رسالة دكتواره بالإنجليزية)، (1978)، و «تطور بدايات المسرح العربي (باللغة الإنجليزية)، (1984)، و «أبطال مسرحيات مارلو الرئيسية»، (أطروحة ماجستير باللغة الإنجليزية)، (1969)، وترجمة كتاب أنجيلا كلارك «جزر البحرين - دليل لتاريخها وتراثها» (1985)، ومساهمته في مجلد «مقالات شرق أوسطية متفرقة» (نشر بالإنجليزية)، (1988). من دون أن ننسى «دراسات في الأدب المسرحي» (1992)، و «دراسة مقارنة لنشأة وتطور أدب المسرح عند العرب» (1996)، و «مقدمة لخمس مسرحيات من البحرين»، (2000 ).
مشاكل ترجمة القصيدة
بالوقوف على ما كتبه مرتضى صلاح في مقالته المهمة «مشاكل ترجمة القصيدة الشعرية»، يعيدنا إلى ما يشبه الأساسيات في التعامل مع النص المُراد ترجمته. هو فقط يذكِّرنا من خلالها بالآليات التي يجب اتباعها من جهة، وقدرة المترجم أحياناً على تجاوز بعض تلك الآليات أحياناً من خلال فطنته واجتهاده وحدسه، والأهم من ذلك كله: لغته التي ينقل إليها. يقول: «ينبغي لترجمة الشعر أن تكون أساس ترجمة لفظية للقصيدة الغنية بالقيم الجمالية والتعبيرية. فقد يواجه المُترجم المشاكل اللغوية والأدبية الجمالية والاجتماعية والثقافية في ترجمته. وتشمل المشاكل اللغوية ترتيب وحجب البنية النحوية لبعض العبارات. وتتعلق المشاكل الجمالية والأدبية بالبنية الشعرية وأشكال التعبير المجازي، والأصوات».
في المجموعة التي بين أيدينا يمكن القول إن الخزاعي نجح أيما نجاح في الحفاظ على روح النص وبنيته، وقدَّم لنا من خلاله حزمة جمالية لا تخطئها ذائقة، ولا يغفل عنها ممن لهم اهتمام ودراية بهذا الحقل.
ربما يكون تلقي الشعراء للترجمة مجسَّاً مهماً في احتفاظ قصيدة ما بروحها ودلالاتها وجمالياتها. أقول الشعراء لأنهم يفطنون أكثر من غيرهم إلى ما يمكن له أن يصل، وما لم يملك قدرة التوصيل: توصيل تلك الحزمة.
بمطابقة النصوص الإنجليزية التي قام الخزاعي بنشرها في ترتيب مريح ومهم، من خلال صفحة تحوي الترجمة العربية تقابلها صفحة تحوي النص الإنجليزي، يمكن الارتياح بشكل بالغ لجهده الذي اتسم بالدقة وسط عشرات المفردات المطابقة في العربية، واستخلاص الأدق من بينها ضمن مسار النص وموضوعه وروحه، ما أعطى قيمة وإضافة تُحسب له ضمن جهود سابقة. ولعل ترجمته لمجموعة الشاعر البحريني قاسم حداد «أيقظنتي الساحرة»، أضافت له الكثير كونها اتسمت بالدقة ولم تنأَ عن لفظية القصيدة من جهة؛ وحافظت في الوقت نفسه على مستوى جمالياتها وبنيتها، علاوة على الاحتفاظ بأشكالها في التعبير المجازي.
ولعل أصعب ما يواجهه المترجم العربي اليوم هو قدرته على نقل النص الشعري العربي إلى لغة ثانية. ذلك أكبر التحديات، بحكم خصوصيات اللغة من جهة، وقاموسها الثري من جهة ثانية، والمجازات من جهة ثالثة، أضف إلى ذلك بنيتها، وخصوصاً إذا اتسمت بإيقاعها الخارجي الظاهر، عدا إيقاعها الداخلي.
قراءة في العصر الفكتوري
الإصدار تضمَّن إضافة إلى القصيدة بنصها الأصلي والترجمة، مقدمة حملت عنوان «أوسكار وايلد والعصر الفكتوري»، قدَّم فيها قراءة للفترة التاريخية التي شهد فيها الأدب نهضة كبيرة، منطلقاً من العصر نفسه الذي رأى أنه يصعب حصره بفترة زمنية مرتبطة بحكم الملكة فكتوريا «فهذا العصر في واقع الأمر امتد إلى أبعد من القرن التاسع عشر حتى العقود الأخيرة من القرن الذي سبقه». موضحاً أنه هو العصر نفسه الذي شهد التحولات والتغييرات على جميع المستويات العلمية والاقتصادية والسياسية.
مبيِّناً واحدة من المسائل المهمة في ذلك العصر الذي عُرف بتشدُّده في موضوعات تتعلق بالشذوذ الجنسي واللواط، حيث يعاقب مرتكبها بأقصى العقوبات، وصولاً إلى أحكام الإعدام، وكان آخرها الحكم الذي صدر في العام 1830 «قبل تولي الملكة فكتوريا».
مشيراً الخزاعي إلى أن أوسكار وايلد كان شاهداً على عصر الملكة فكتوريا حتى نهاية تسلسله الزمني؛ إذ ولد في دبلن بأيرلندا في العام 1854، وتوفي في باريس العام 199.
مشيراً إلى أن وايد كان ممن يطلق عليهم «الكتَّاب أنجلو أيرلنديين»، فلم يك شاعراً فحسب، إذ تعددت مواهبه إبداعاً في المسرح، ومن بين أعماله المأساة الميلودرامية «فيرا»، و «سالومي»، مسرحية ذات فصل واحد، وأربع مسرحيات كوميديا سلوك: «زوج مثالي»، مروحة ليدي وندرمير»، «امرأة غير مهمة»، و «أهمية وجود إرنست»، أما في مجال الرواية فكتب واحدة بعنوان «صورة دوريان جراي».
يتناول الخزاعي في المقدمة حقيقة عرف بها وايلد وهو شذوذه الجنسي، علاوة على أنه «كان يتباهى بخطيئته دون مواربة في مجتمع شديد التستر على هذا السلوك الشاذ».
موضحاً أن مأساة وايلد الحقيقية تكمن فيه كونه أراد أن يتخطى عصره ناسياً أن قيود التزمت وسلوك المحافظة التي تميَّز بها العصر الفكتوري كانت تقف سداً منيعاً أمام كسر تقاليد وعادات ذلك العصر».
كما تضمنت المقدمة سيرة موجزة لوايلد، استناداً إلى دائرة معارف ويكيبيديا.
التعريف بالقصيدة
نورد هنا جانباً مما كتبه الخزاعي تعريفاً بالقصيدة التي تنتقل من التجربة الخاصة لتركِّز على تجارب الآخرين فيما يتعلق بمعاناة المحكومين، ومن ينتظرون الإعدام، إذ لا تحكي تجربته في السجن الذي قضى فيه عامين. مشيراً الخزاعي إلى أن القصيدة موضوع الكتاب «تكوين شعري من نوع البلد (Ballad) أو القصة الشعبية، ويخيل لنا أن وايلد أراد من خلالها أن يتهكَّم على مجتمع تمنى لو لم يحيى في»، موضحاً أن وايلد اتخذ في تأليفه للقصيدة «أسلوباً على شكل فقرات مكونة من ستة أبيات مقفاة في البيت الثاني والرابع والسادس، كما لو كانت ثلاثية يتكون البيت الأول من الصدر والثاني من العجز».
مورداً أنه بالنسبة إليه كمترجم، يعتبرها تجربة فريدة «شاركني فيها صديقي الشاعر قاسم حداد الذي أضاف إلى الترجمة العربية تلك اللمسات الشعرية الضرورية».
ترجمة «قصيدة سجن ردنج»، تقدِّم خلاصة تجربة «احترافية»، من أكاديمي متخصص، علاوة على اهتماماته البارزة في مجال الكتابة الأدبية والنقد.
ضوء
يُذكر أن محمد الخزاعي يحمل دبلوماً في الإدارة التنفيذية من كلية إدارة الأعمال العليا بجامعة كولومبيا نيويورك، الولايات المتحدة، ودكتوراه في أدب المسرح العربي، جامعة لندن، بريطانيا، كما أنهى دورة في إدارة الفنون بمعهد بوليتكنيك وسط لندن (جامعة وسط لندن(، وشهادة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة ليدز، بريطانيا، وبكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة القاهرة. تم تكريمه من قبل وزراء الثقافة في مجلس التعاون لدول الخليج العربية لإسهاماته في مجال الترجمة. له دراسات عديدة في مجال النقد الأدبي والمسرحي. تُعدُّ دراسته «تطور بدايات المسرح العربي»، من المراجع الأساسية في العديد من الجامعات العربية والأجنبية.