لا يختلف اثنان أنّ تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وما تبعها من أحداث دراماتيكية في أفغانستان، ثم احتلال العراق 2003، كان منعرجاً حاسماً في طبيعة عمل الجماعات الجهادية، وفي تعامل الدول، ولاسيما العربية منها، مع ملف الإرهاب وبالذات ما كان منه على صلة بالجماعات الجهادية والتكفيرية. كما أنّ بعض الدول العربية التي عرفت ثورات أو انتفاضات شعبية في 2011، قدْ قُدِّرَ لها أن تنفتح على المجهول فتكون أرضاً ملائمة لمثل هذه الجماعات التي غيّرت تكتيكها من الضربات السريعة الموجعة، إلى التوسع على امتداد القرى والمدن في الأراضي وخاصة السورية والعراقية وبدرجة أقلّ في ليبيا.
وفي هذا الخضمّ الملتهب برز معطى غريب نوعاً ما حيث أبانت الإحصائيات عن عدد كبير يقدّر بالآلاف تصدّره الدول المغاربية إلى ميادين القتال في سورية والعراق عبر البوّابة الليبية المفتوحة في السنوات الأخيرة. وليس جديداً على دول المغرب العربي ظهور عدد من الجهاديين بين ظهرانيها، فطويلاً ما عانت من هؤلاء، ولكن العجيب هذا العدد المهول. فكيف أخذت تتعامل الدول المغاربية مع هذا المعطى الجديد؟ وهل أنّ المقاربة الأمنية في التصدي للظاهرة الإرهابية كافية؟
طويلاً ما تشدّقت بعض الأنظمة المقبورة في المغرب العربي على غرار نظام الرئيس التونسي المخلوع ابن علي بتجربته في محاربة الإرهاب، حتى قيل إنّها صارت تدرّس! غير أنّ الحقيقة مخالفة تماماً لما كان يروّج له؛ فقد ظهر الآلاف ممن يساندون قولاً وفعلاً العمل «الجهادي» مباشرة بعد سقوط نظامه، وهو ما يؤكد أنّ المقاربة الأمنية وحدها لا تكفي، وأنّ سياسة تجفيف منابع الإرهاب بالسجون وقطع الأرزاق والأعمار لا يمكن إلا أن تنقلب إلى عكسها.
هذا ما انتبهت إليه الدول المغاربية؛ إذْ تنوّعت في العشريّة الأخيرة مقارباتها لمكافحة الإرهاب: فمن الناحية القانونيّة، طوّرت كل دولة ترسانتها التشريعية فسنّت القوانين لمحاسبة من يتورّط في قضايا الإرهاب؛ فها هي موريتانيا مثلاً تعدّل بعض أحكام القانون الصادر سنة 2010 والمتعلق بمكافحة الإرهاب ليكون مواكباً للتطورات الجديدة مراعياً قدر الإمكان حقوق الإنسان. وها هو مجلس النواب المعترف به في طبرق شرق ليبيا قد تبنّى قانون مكافحة الإرهاب في سبتمبر 2014، وها هو مجلس نواب الشعب في تونس يصادق في 2015 على قانون الإرهاب الجديد.
أمّا المعالجة الأمنية، والتي كانت عمود مكافحة الإرهاب، فقد اختصّت به كل دولة على طريقتها؛ فأمّا تونس فقد وجدت من شعبها مساندة قوية بعد أحداث باردو وسوسة 2015، وبنقردان 2016، حيث قامت قوات الأمن والجيش الوطنيّ بعمليات استباقية منعت معها وقوع مزيد من الضحايا، فضلاً عن الردّ البطوليّ، وخاصة في ملحمة بنقردان جنوب تونس حين حاولت «داعش» الاستيلاء على هذه المنطقة لإقامة إمارة تكون لها بوّابة إلى تونس والجزائر التي تفتخر بأنّها الأقل تصديراً للمقاتلين إلى سورية والعراق، والتي عاشت في العشرية السوداء الأمرّين في محاربة التيارات الجهادية حتى استتبّ الأمن فيها؛ إذ تعدّ الجزائر اليوم من البلدان القلائل التي تنعم بالاستقرار في المنطقة. وأمّا المغرب فلها سجلّ حافل بالنجاحات في مجال مكافحة التطرّف داخل البلاد وحتّى خارجه من ذلك تفكيك عدة خلايا مرتبطة بتنظيم «القاعدة» وبتنظيم الدولة، فضلاً عن تفكيك قنوات تجنيد القتاليين إلى سورية ومالي. وها هي ليبيا الجديدة، مع حكومة الوفاق الوطني وبرعاية الأمم المتحدة تجعل الخيار الأمنيّ ذا أولوية، وتلقى الدعم من كل الأطراف لمكافحة الإرهاب في أراضيها ومنع تصديره إلى دول الجوار. ولم تتخلف موريتانيا عن الركب فقد ضاعفت جهودها التنسيقية مع السنغال، فضلاً عن تنسيقها العسكري مع فرنسا حتى تتولى موريتانيا عمليات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل التي تعيش على وقع تهديدات مستمرة لتنظيم «القاعدة» ببلاد المغرب الإسلامي.
وتتفق الدول المغاربية أنّ الاستراتيجية الأمنية الشاملة لا ينبغي أن تقوم على العمل العسكري، بل على عوامل أخرى، ولعل أبرزها العامل الثقافي والتربوي فها هي الجزائر تحتضن هذا العام ندوتين بشأن مكافحة الإرهاب والقضاء على التطرف، وكذلك موريتانيا قد نظمت بالتنسيق مع منظمة المؤتمر الإسلامي مؤتمراً دولياً بشأن دور علماء المسلمين في مكافحة الإرهاب والتطرف. كما أنّ التجربة التونسية الجديدة تستحق التنويه؛ إذْ أطلقت حديثاً وزارة الشئون الدينية حملة (غدوة خير) أي غداً أفضل، وتتواصل من مارس/ آذار 2016 إلى مارس 2017 في إطار الحملة الوطنية لمكافحة الإرهاب، حيث يسعى القائمون عليها إلى بناء قلعة افتراضية تحمي شباب تونس الذين وقع اختراقهم من خلال مواقع التواصل والإنترنت. وتتمثل الحملة في إطلاق «بوابة إلكترونية لنشر القيم الإسلامية الصحيحة (...) باعتماد المنهج الزيتوني المعتدل» في إشارة إلى منهج علماء جامع الزيتونة التونسي الشهير، و «موقع (إلكتروني) متطور ومرتبط بمختلف المواقع الاجتماعية، للتفاعل والمواكبة» إضافة إلى «إرساء مركز للإنصات والاجابة عن تساؤلات الشباب بشأن قضايا الإسلام. كما تشتمل الحملة على «تكثيف الدروس (الدينية) بالجوامع والمساجد» و «تنظيم لقاءات بالشباب في النوادي وسائر الفضاءات المتاحة لطرح القضايا التي يروج لها الفكر المتطرف، كما ستمول وزارة الشئون الدينية إنتاج برامج أسبوعية إضافية ضد الإرهاب والتطرف لبثها عبر الإذاعات والقنوات التلفزيونية التونسية.
وتسعى المغرب من جهتها إلى حماية المواطنين من أشكال الفهم الخاطئ للإسلام من خلال تعميم نشرة رسمية عن الأئمة، وتأسيس (مديرية التعليم العتيق) في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، وتشكيل مجلس ديني في أوروبا للجالية المغربية والاستعانة بالمحطات الإذاعية والتلفزيونية للترويج للتعاليم المعتدلة، ومراجعة الكتب والمناهج الدراسية بهدف حذف ما له علاقة بالترغيب في التطرف والعنف.
لكنّ الجهود من أجل بناء مقاربة اقتصادية واجتماعية تضمن لمختلف أبناء المغرب العربي حقوقهم في العمل والعيش بكرامة، وتمنعهم من ركوب قوارب الموت نحو أوروبا أو اتخاذ سبيل الجماعات المتطرفة بحثاً عن المال والغنيمة عاجلاً، وعن الفردوس آجلاً، هذه الجهود في التنمية المستدامة والعادلة لاتزال تراوح مكانها في بعض البلدان المغاربية وتحتاج مساعدة من أجل توظيف هذه الطاقات الشبابية المغاربية في بناء أوطانها. وإنّ اتباع المقاربات المختلفة (الأمنية والسياسية والاقتصادية والثقافية...)، لَيؤكد مدى خطورة الإرهاب وضرورة التعاون في التصدي له.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4980 - الإثنين 25 أبريل 2016م الموافق 18 رجب 1437هـ
مكافحة الإرهاب في المغرب العربيّ: لا بد من القضاء على أسباب التوجه نحو الإرهاب
نأمل أن تكون كلّ الجهود صادقة في مكافحة هذه الظاهرة، وخاصة مزيد تنمية الوعي بخطورتها لدى العامة والخاصة.
لا مستقبل لهذه الحركات المتطرفة وفكر الحداد وابن عاشور والشيخ النفزواوي وغيرهم مازال قائما يقبح وجه الارهاب والارهابيين.
شكرا أخي سليم مقال رائع . حفظ الله المغرب العربي وشافاه من هذا المرض الخطير " لكن كما قلت لا بد من التعاون : وإنّ اتباع المقاربات المختلفة (الأمنية والسياسية والاقتصادية والثقافية...)، لَيؤكد مدى خطورة الإرهاب وضرورة التعاون في التصدي له.