العدد 4980 - الإثنين 25 أبريل 2016م الموافق 18 رجب 1437هـ

«منزل مليء بالبنات» لنيكلسون... سبعة أجيال من الأسرار... الغيرة والحب

هجْر الأمهات خيط مشترك في الكتاب...

جولييت نيكلسون
جولييت نيكلسون

تأخذنا أندريا وولف، من خلال مراجعتها في صحيفة «الغارديان»، يوم الجمعة (25 مارس/ آذار 2016)، لكتاب «بيت مليء بالبنات»، لجولييت نيكلسون، إلى أبعد من اليوميات لبنات وأمهات ينتمين إلى سبعة أجيال. تبدو الكتب التي تؤرخ... تسجل مثل تلك اليوميات عنهن قليلة ونادرة، وخصوصاً إذا ما أريد لتلك الكتب أن ترصد وتتبَّع أكثر من جيل. بكل التناقض الصارخ الذي قد يبرز في قصة هنا، وحكاية هناك، وتفرُّد في المسئولية هنالك، وهروب منها في مواضع أخرى. قصة الأسرار والغيرة والهجران... هجر الأمهات خصوصاً، ذلك الذي يبدو خيطاً مشتركاً في جُلِّ صفحات الكتاب الذي يتناول أو يسرد قصة واحدة أو أكثر لهن. فيه قصة الانتماء إلى المكان. المكان نفسه الذي تتولَّد عنه الوحدة والشعور بالاغتراب. قصة النجاح والفشل. اليأس والأمل. الغنج والانحراف. الشباب الذي يذوي دون أن يلتفت إليه صاحبه. الشيخوخة كذلك لها وقوف وتناول.

تتصدَّى واحدة من أفراد العائلة هنا لا لكشف الأسرار، بل لكشف الطريقة التي تم التعامل بها مع حياة الأسرة. التشبُّث بالمسئولية حيناً، والتشبُّث بالأنانية حيناً آخر. في الأسرار تلك خلاصة درس تقدمه نيكلسون بدقة المؤرخ من جانب، ورهافة السرد من جانب آخر. في الشرق كتابة مثل تلك جزء من العار، أو ما يجلب العار على أقل تقدير. في الغرب مثل تلك اليوميات والسيرة إضاءة على الحياة التي يجب أن تكون، والأخرى التي يجب تجنُّب منغِّصاتها، والمضيِّق على رحابتها، والمُعكِّر لصفائها.

عائلة اليوميات

تبدأ وولف بتقديم نبذة عن جولييت نيكلسون، تلك التي تنحدر من عائلة «تعتبر عادة كتابة قصة حياتها تقليداً منذ زمن طويل»، بحسب ما تُورده نيكلسون في بداية كتابها «منزل مليء بالبنات»، الذي رأت وولف أنه يمتلئ بالكثير من الصدق.

في التعريف تأخذنا وولف إلى ما يشبه الشجرة المتشابكة والمعقدة من أم جدَّة نيكلسون (فيكتوريا ساكفيل ويست)، تلك التي خلَّفت وراءها عدداً كبيراً من مؤلفات اليوميات، مروراً بجدَّتها فيتا ساكفيل ويست التي نشرت العديد من الكتب عن العائلة، ووالدها نايجل نيكلسون، الذي كتب وحرَّر عدَّة مؤلفات حول والديْه، أو تلك التي كُتبت من قبلهما. عائلة امتهنت الكتابة، ولم تكن طارئة عليها. ليقوم الجيل الذي يلي بالمهمة نفسها. إنها عائلة اليوميات، إذا صح التعبير.

تشير وولف إلى أن الكتاب ينضم إلى سلسلة طويلة من الإصدارات التي تتناول تاريخ وحكايات وأدوار عائلة غير عادية، وفي المقام الأول اتخذ الكتاب مساراً كي يظهر في صورته الإبداعية والمضيئة. لم يتكئ على السرد لذات السرد، بل بالتفاصيل التي تستجلي تلك الحكايات والقصص والحوادث.

في مراجعة وولف وقوف على تركيز نيكلسون على سبعة أجيال من النساء، بدءاً من شهوانية الإسبانية بيبيتا إلى حفيدتها، ايموجين، التي وُلدت في العام 2013. كتاب يتجلَّى فيه حضور البنات والأمَّهات، متناولاً الهجْر والأسرار والغيْرة، والشعور بالانتماء إلى مكان ما، وقدرة ذلك المكان على صوغ الشعور بالوحدة في الوقت نفسه. هو كتاب أيضاً عن أولئك الآباء الذين تبيَّن أنهم أكثر مقدرة على أن يكونوا موضعاً للثقة وموئلاً للمحبَّة.

في تبادل الأدوار

تأخذنا المراجعة إلى القصة التي تبدأ في العام 1830 مع جدَّة جدة نيكلسون، بيبيتا، تلك التي وُلدت في أحد أحياء الشوارع الخلفية الفقيرة في مَلقا. بيبيتا التي قُدِّر لها أن تُصبح راقصة فلامنكو شهيرة، تزوَّجت مُعلّمها، ولكن والدتها الغجرية شديدة الغيرة، كاتالينا، لم تألُ جهداً في تدمير زواجهما، وقد فعلت. وقعت في الحبِّ مع دبلوماسي بريطاني، هو ليونيل ساكفيل ويست، وريث اللورد ساكفيل الذي كان أبتر (لم ينجب أطفالاً)، ويملك قلعة في Knole بمقاطعة كينت؛ وهي ذاتها منطقة أصحاب الثروة غير العادية، التي تقطنها الأسر الأرستقراطية. رُزق كل من بيبيتا وليونيل بخمسة أطفال، بعيداً عن مؤسسة الزواج. بعد وفاتها، أرسل ليونيل أولاده إلى المدارس وكان نادراً ما يلتقي بهم. في أواخر العام 1881، انضمت ابنته البالغة من العمر 19 عاماً (فيكتوريا) إلى والدها في واشنطن، وكانت تقوم بدور البنت والزوجة من حيث قيامها على خدمته وتلبية متطلباته بشكل فعَّال. كانت العلاقة بينهما وثيقة - وحَّدهما الحزن على بيبيتا - أصبحت فيكتوريا محط إعجاب المجتمع الذي احتفى بها أيما احتفاء. كانت معشوقة سكَّان واشنطن، وسحرت الصحافة وقتها.

عندما ورث ليونيل قلعته في «Knole»، انتقلا إلى بريطانيا، حيث تزوجت فيكتوريا ابن عمٍّ لها يحمل اسم والدها نفسه. تقديرات نيكلسون بإقامة حب جامح خلال الأشهر الأولى من الزواج كانت تبعث فيه الكثير من النشوة؛ إلا أن كل ذلك سينتهي قريباً حين قرَّرت فيكتوريا بعد ولادة طفلتها الأولى: فيتا، عدم رغبتها في المزيد من الأطفال أو المزيد من الحب الجامح. لم يغيِّر كونها أماً، الواقع الجديد بعلاقة فيكتوريا بزوجها فقط؛ بل امتد ذلك إلى والدها. كانت للشاب ليونيل علاقات خارج الزواج. تمتد السنوات ليصبح مُسناً منعزلاً، أما فيكتوريا فقد صبّت اهتمامها وتركيزها على فيتا - ولكن ليس لفترة طويلة. كأن الهجر سمة لهذه العائلة. العلاقات تسير ضمن إيقاع المؤقت والزائل. قالت فيتا لاحقاً: «أحبّتني حين كنت طفلة رضيعة»، إلا أن ذلك الحب لم يستمر. في عيون فيكتوريا، كانت فيتا قبيحة، شعثاء وغير مألوفة للغاية (على رغم أن فيكتوريا كانت تكبر غريبة أيضاً على نحو متزايد). في المقابل نمت علاقة فيتا بوالدها بشكل وثيق. في انفصام علاقات، والتحام علاقات أخرى، وضمن البيئة الواحدة.

إرث التخلِّي

ليس هنالك الكثير مما يمكن أن يجدَّ بحيث يمكِّن نيكلسون من إضافة شيء فارق لحياة فيتا - حبُّها لقلعة «Knole»، والشعور بالخسارة حين ورِثها ابن عمها... علاقاتها مع النساء... زواجها من هارولد نيكلسون، وبالطبع نشأتهم في قلعة سيسينغهرست، بمقاطعة كينت. كل ذلك يتوالى ليحدد مسار العلاقات تلك. لكن ما الذي يجعل قصة أم جولييت: فيليبا، أكثر من رائعة؟ ففي الوقت الذي يكون فيه الجميع مصابين بالهوَس. الهوس من كل شيء أو بعضه، تكتب نيكلسون، معزِّزة بالتسجيل والسرْد كل ما حدث من جانب والدها في الأسرة، فيما لا أحد لديه كثير اهتمام بالمسار الأمومي، لتينيسون دي إنكورتس.

توضح وولف بأنه لا توجد يوميات... هنالك قليل من الصور، وكلّما تحدَّثت فيليبا حول نشأتها تعترف نيكلسون: «نُصابُ بالتثاؤب». هناك بعض الروابط البعيدة لوليام غلادستون وألفريد تنيسون ولكن عبْر العلاقة الفاترة والمختلّة بين فيليبا ووالديْها - وفي وقت لاحق بين زوجها، نايجل، وذلك هو ما يجعل القراءة أخَّاذة ومُفجعة في الوقت نفسه.

ولدت فيليبا «تم إهمالها بشكل مُبهم وسط شقيقيها» في العام 1928. في بيئة محافظة، مكبوتة عاطفياً، قليل هو اهتمام والديها بها. كان زواجها من نايجل نيكلسون (الابن الأصغر لفيتا) خلال خمسة أسابيع من اللقاء به، هروباً يائساً. وصْف نيكلسون لزواج والديها أكثر من استثنائي، مُعتبرة أنها الأقرب إلى والدها، فيما تعاني نوعاً من الاغتراب من جانب والدتها. بنظرة جدلية تصرف ماضيهما بعيداً، وكذلك ماضيها بشكل مثير للدهشة، وبأسلوب بالغ في دقته.

بعد إعلان الخطوبة، كان والدا فيليبا ممتنيْن لنايجل لأخذها «من بيننا»، في حين يستيقظ خطيبها في صباح اليوم التالي متسائلاً «يا إلهي، ماذا فعلت؟»، وليس مثيراً للدهشة بأن ما حدث وبالطريقة التي حدث بها الأمر، لا ينبئ عن وصفة لضمان مستقبل سعيد.

يبيَّن النائب المحافظ نايجل نيكلسون، حاجته إلى زوجة (كان في أواخر الثلاثينات من عمره ولمّا يتزوج، وصار على ألسن الناس في دائرته الانتخابية) لكنه في غضون أسابيع سئم من زوجته الجديدة. ما تبع ذلك أن الزواج كان يخلو من الحب؛ ما دفع فيليبا إلى الهرب إلى سان تروبيه واحتساء المسْكرات، تاركة ثلاثة أطفال في رعاية مجموعة من المربيات، والمدبرات ونايجل نفسه. جولييت، مثل كثير من بنات أخريات في عائلتها، تخلَّت عنها والدتها.

البحث عن أنماط السلوك

تضعنا مراجعة وولف أمام قدرة نيكلسون على الجمع بين تدقيق المؤرِّخ والارتباط العاطفي الذي لا يقدر عليه سوى واحد من أفراد العائلة؛ إذ تبحث نيكلسون عن أنماط السلوك التي طرأت جيلاً بعد جيل. القصص التي تكشفها مثيرة للاهتمام بقدر ما هي مُؤلمة. هجْر الأمهات خيط مشترك في الكتاب، والقصص التي تعجُّ به، كما هو الحال مع إدمان الكحول. إلا أن هناك محاولات لامتصاص الألم أو التخفيف منه أيضاً. عدد غير قليل من الرجال تألقوا في الأدوار التي يرسمها الكتاب، وهي أدوار قاموا بها، ومن بينهم أولئك الذين لديهم علاقات وثيقة ببناتهم. هنالك فيكتوريا وليونيل المسن. فيتا وليونيل الشاب. وجولييت ووالدها نايجل.

هي رائعة مثل جدَّتها، فيكتوريا، كما توضح وولف، يوم أن كانت في واشنطن. خطت نيكلسون بسرعة من أجل «شغور» الوظيفة التي تركتها والدتها بعد طلاق والديها (ثمة نمط آخر يتم تقديمه هنا). اعتنت بوالدها، تواجدت في البيت في عطلة نهاية الأسبوع، بعد انتهاء دراستها التي تتلقاها في مدرسة داخلية، كي تقوم بطهي الطعام وتنظيم الحفلات ووجبات الغداء. في المقابل، قدّم لها نايجل الحب والاستقرار الذي تتوق إليه. قدَّم لها نصيحة «غيِّري مهنتك وكذلك اتجاه حياتك الرومانسية لثلاث مرات»، علاوة على أنه كان حاضراً عندما تكون في حاجة إليه.

تضعنا نيكلسون أمام عادة ليونيل بقراءته مرتين في العام ستة مجلدات من كتاب «الإمبراطورية الرومانية» لإدوارد جيبون. وهارولد نيكلسون المسنّ منضماً إلى أحفاده في بركة التجديف بسيسينغهرست من خلال المشي مباشرة إلى المياه من دون أن يخلع حذاءه وجواربه.

مضحكة... مؤلمة

«منزل مليء بالبنات» يجول في حكايا وقصص سبعة أجيال بثقة ويُسر: مضحكة أجزاء منه، ومؤلمة أجزاء أخرى، لكنها تظل مفعمة بالصدق.

من جانبه قدَّم موقع «أمازون» الشهير للكتاب بالقول، إن جميع الأُسَر لها خرافاتها والأساطير. ولسنوات عديدة توافقت جولييت نيكلسون مع الجمال الباهر الذي كانت عليه جدَّة جدَّتها راقصة الفلامنكو، بيبيتا، والغنج الشائن لجدَّتها الكبرى فيكتوريا، والغرابة التي كانت عليها جدتها فيتا، ووالدتها بامتداداتها التقليدية والمحافظة.

بالتساؤل بدأت المؤرِّخة الشهيرة جولييت. ومثلما عمدت إلى ذلك، قامت بتحويل الحقيقة انطلاقاً من الرواية والخيال، كاشفة عن تفاصيل وأسرار ظلت لفترة طويلة بعيداً عن التناول.

«منزل مليء بالبنات» يأخذنا إلى حيث سبعة أجيال من النساء. في الأحياء الفقيرة من ملقا فترة القرن التاسع عشر، والصالونات في واشنطن العاصمة... المدرسة الداخلية الانجليزية أثناء الحرب العالمية الثانية، وتشلسي في ستينات القرن الماضي، وما بدت عليه مدينة نيويورك في ثمانينات القرن الماضي.

العمل تحقيق من قبل امرأة حول طبيعة العائلة، الذكريات، الماضي، وقبل كل شيء: الحب. تتجلَّى في الكتاب رسائل الحقيقة والأمل الذي تنشده لنا جميعاً.

جولييت عندما كانت طفلة في العام 1956 مع والديها فيليبا ونايجل نيكلسون
جولييت عندما كانت طفلة في العام 1956 مع والديها فيليبا ونايجل نيكلسون




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً