في الأسبوع الأول من شهر أبريل/ نيسان الجاري، كَتَبَت صحيفة «التايمز» البريطانية تحليلاً غريباً. الصحيفة وفي إطار تقييمها لما تقول حركة التطرف الإسلامي، ثم لوضع المسلمين في أوروبا وانجلترا تحديداً، قالت بأن جذور ذلك التطرف في بريطانيا هو «ديوباندي». وهذا المصطلح يرمز إلى حركة ديوباندي الهندية الإسلامية التي تأسست سنة 1866، وبَقِيَ تأثيرها قوياً في عموم منطقة شبه القارة الهندية، وبالتحديد خلال انفصال باكستان وبنغلاديش عن الهند ثم الصراع في كشمير.
وتضيف الصحيفة أن 600 مسجد من مساجد بريطانيا البالغ عددها 1350 وعدداً كبيراً من المدارس الداخلية تُدار من قِبَل تلك الحركة (ديوباندي)، وهي تُخرّج ثمانية من كل عشرة شيوخ في بريطانيا (حسب وصفها)، على رغم أن الموقف الرسمي لهذه الحركة في بريطانيا هو الإدانة المشددة للإرهاب، ودعم القيم البريطانية ومن بينها التسامح مع الديانات الأخرى ومع اللادينيين حسب التايمز! لكنها تعتقد (أي الصحيفة) أن ذلك الخطاب تمويهي ولا يعكس حقيقة معتقداتها.
تعود الصحيفة إلى العام 1993 وتشير إلى السماح لمسعود أزهر زعيم جماعة جيش محمد لتحرير كشمير بزيارة بريطانيا، وإعطائه الفرصة كي يزور 42 مسجداً على أراضيها يقعون تحت نفوذ حركة ديوباندي، حيث ألقى خلال تلك الزيارة خطباً رنانة تحت عنوان «الاستعداد للجهاد». وكان ذلك الخطاب (وفقاً للتايمز) قد وَجَدَ له صدى عند كثيرين بين شباب بريطانيا من المسلمين سواء في المساجد أو في تلك المدارس الخاصة ومن بينهم رشيد رؤوف أحد منفذي هجمات 7 يوليو/ تموز 2005 الدامية في بريطانيا، وآخر محكوم بالإعدام في باكستان بعد تورطه في اغتيال دانيال بيرل المدير السابق لمكتب صحيفة «وول ستريت جورنال» في جنوب آسيا والذي اختُطِفَ بتدبير وتخطيط من تنظيم «القاعدة» في ديسمبر/ كانون الأول 2001.
الحقيقة أن ما قالته الصحيفة يحتاج إلى نظر! فهناك أشياء أخرى يمكن تناولها هنا، كونها أبعد من ذلك بكثير. بداية يجب أن نعرف أن مسألة ظهور الإسلام في بريطانيا لم تأتِ فقط من المهاجرين (الهنود مثلاً) بل كانت جذوته أيضاً على أيدي انجليز أقحاح منذ مئات السنين. وربما يذكر لنا التاريخ أن ويليام هنري كويليام، وهو محامٍ من ليفربول، كان قد أعلن إسلامه قبل 129 عاماً من الآن. وكذلك الحال مع بيكثال (وهو ابنٌ لقِس)، ورولاند ألانسون الذي أعلن إسلامه عام 1913 بالإضافة إلى خالد شيلدريك.
وعندما نقول هذا فنحن لا نشير إلى أفراد عاديين بل إلى صفوة اجتماعية انجليزية كانت مؤثرة. فبعض منهم أصبح إماماً للمسلمين في بريطانيا وأنشأ مسجد ليفربول والمعهد الإسلامي ومدارس ودور أيتام ومتحفاً ومجلة اسمها «الهلال» مثل ويليام. وبعضهم كتب دراسات في ووكينغ ميشن وبنى مسجداً في كنسينغتون كاللورد هيدلي. وبعضهم أصدر ترجمة انجليزية لمعاني القرآن الكريم اعتمدتها جامعة الأزهر كما هو في حالة بيكثال. وبالتالي فنحن نتحدّث عن فئة انجليزية أصيلة.
لذلك هذا الأمر لا صِلَة له إطلاقاً بمسألة «الأفكار المهاجرة» وبالتحديد الآسيوية. فجزء من تلك التحولات الاجتماعية في بريطانيا كانت نتيجة تأثيرات شخصية من أتراك ومصريين ومغاربة، أو رحلات إلى شمال إفريقيا ومنطقة آسيا الوسطى. وجزءٌ من تلك التحولات حصلت قبل ظهور تأثيرات ديوباندي أصلاً. لذلك فالبيئة للإسلام هناك كانت بريطانية بخصوصيتها.
أمر آخر يجب أن نشير إليه هنا إلى أن المسألة الإسلامية في بريطانيا (بل والعالم كله) وبالتحديد للتيارات الفكرية فيه قد خضعت لاعتبارات سياسية غاية في التعقيد. ففي الوقت الذي كانت تشير فيه التايمز (باستغراب) إلى شخصية مسعود أزهر زعيم جماعة جيش محمد لتحرير كشمير وكيف سُمِحَ له بالمجيء إلى بريطانيا قبل 23 سنة ليلقي خطباً، يتذكر الجميع أن ذات الشخص كان قد سافر إلى الهند من بريطانيا عام 1994 وبتمتعه بحرية حركة لافتة ودون قيود.
وقد ذكرت صحيفة «الشرق الأوسط « اللندنية في فبراير/ شباط 2002 أن أزهر اعترف للشرطة الهندية أنه سافر إلى كينيا، سنة 1993 كي يلتقي بزعماء إسلاميين صوماليين من منظمة الاتحاد الإسلامي، والتي تتهمها الولايات المتحدة الأميركية بأنها تُدرّب مقاتلين بمساعدة تنظيم «القاعدة» وتعدّهم لهجمات ضد القوات الأميركية، وأنه أرسِلَ إلى هناك بتكليفٍ من زعيم إسلامي آخر. ثم قال لهم بأن تنظيم «القاعدة» هو الذي قتل الجنود الأميركيين الثمانية عشر في الصومال.
وقبل أسابيع، وعندما طالبت الهند الأمم المتحدة بوضع اسم أزهر على لائحتها السوداء بسبب ما تقول عن تورطه في الهجوم على قاعدة جوية هندية شمال ولاية البنجاب، رأينا دولاً عظمى ترفض ذلك الطلب ربما لدواعٍ سياسية متأسسة على أخرى اقصادية أو تقييمات أمنية أخرى. لذلك، ما يجب أن يُعرَف هنا هو مدى توظيف المسألة الإسلامية بصورة عامة لتحقيق منافع هنا وهناك، بل والاختلاف حتى على مفهوم التطرف والإرهاب، وهي محل نظر وتأمّل فعلاً!
الأمر الثالث هو أن بريطانيا تمتلك واحداً من أعرق وأضخم أجهزة الاستخبارات في العالم، يغطي أجزاءً واسعةً من هذا العالم، وتستعين به دول عدة بما فيها دول أوروبية، وبالتالي فهو لديه القدرة على مراقبة كافة الأنشطة التي يمكن أن تشكل أعمالاً إرهابية في العالم، فضلاً عن المسلمين الموجودين في داخل بريطانيا. لذلك، من الخطأ الغمز إلى المسلمين هناك، والقول بأن نصف مؤسساتهم الدينية والتعليمية هي ذات توجهات متطرفة! هذا الأمر غير مقبول وغير دقيق.
هذه مسألة حساسة يجب أن تُقرأ بطريقة منصفة وإلاّ وقع الحَيْفُ على أزيد من ثلاثة ملايين مسلم يعيشون في بريطانيا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4979 - الأحد 24 أبريل 2016م الموافق 17 رجب 1437هـ
وهل نسيت الأفغان والقاعديين..
أستاذي،أستغرب لأنك لم تمر على قصة (المجاهدين الأفغان) ومن ثم (الأفغان العرب)،ولا المصريين(جماعة الجهاد،والتكفير والهجرة)، وكيف أنهم كانوا يسافرون ويعالجون في بريطانيا،وكيف أنهم لاحقاً سكنوا في لندن،وبعضهم أعلن بمبايعته للقاعدة وبن لادن،وهو يؤم المصلين في شوارع لندن وبحماية الشرطة المحلية !!
بريطانيا اعرق دول العالم في الجاسوسية والاستعمار ، حيث تعتبر المدرسة الدولية التي تستعين بها الدول الأخري تدريب اجهزتها الجاسوسية و البوليسية بنا فيها دول كبرى . فلا عجب بلصقها صفة التطرف على فئة معينة من المسلمين لخدمة جهات دولية راغبة في الانتقام من المسلمين وبث الفرقة بين طوائف المسلمين للاستفراد منقدرات الدول . مقالة متميزة .
أينما وجدت بريطانيا وجدت الفتنة والتفرقة والتفكك والتشرذم ... لكنهم يفعلون ما يفعلون ببراعة وخبث وخفاء
بارك الله فيك
دائماً متميّز