تعدّدت المقاربات النظرية لفكرة الديمقراطية التوافقية بين المدخل الذي يعتبرها فكرة معيارية تقاس بها درجة تعدد مصادر السلطة السياسية، وهي المقاربة التي ذهب إليها المفكر الهولندي «ارنت ليبهارت» في كتابه المرجعي: الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، والمدخل الذي يراها مجرد خطة استراتيجية تدار بها مراحل التحولات السياسية بين الفرقاء السياسيين بما تعتمده من تفاهم بشأن آليات التدبير الجماعي المشترك لانتقال السلطة السياسية. لكن عندما تتزامن محطات الثورات السياسية مع وجود مجتمعات متنوعة دينياً وإثنياً وسياسياً وثقافياً، فإن فكرة التوافق تكون أقرب إلى التجرّد العقلي منه إلى الواقعية الحتمية.
الحروب والصراعات التي استُدرجت إليها دول الربيع العربي ساعد فيها التنوع الديني والإثني والثقافي والسياسي الذي تعرفه تشكيلة مجتمعات الشرق الأوسط بشكل حاد ومجتمعات شمال إفريقيا بشكل أقل حدة. فلقد استُلب هذا التنوّع الحضاري بشكل سلبي وشكّل ورقةً سياسيةً ماكرةً استغلتها الأنظمة العميقة الآيلة للسقوط من أجل زعزعة الاستقرار السياسي والأمني وضرب مسار ثورات الحرية التي نادت بها الشعوب. لذلك كانت الثورة السياسية في البلدان التي تعرف هذا التعدد ضرباً من التحدي والمخاطرة، وذلك بالنظر لحساسية التشكيلة المجتمعية ولسهولة الانزلاق نحو الحروب الأهلية.
والأمر يحتمل كثيراً من الصواب مع فوارق في احتمال نجاح تحول سياسي سواء بثورة صِدامية مع النظام السياسي أو بواسطة حراك تستجيب من خلاله السلطة لمطالب الشعب بدون ممارسة للعنف. في سورية، كادت الثورة السلمية أن تنجح في ضبط الوعي الجماعي التعددي وفي صياغة تمثيلية سياسية جديدة متوافق عليها لولا لعب النظام السوري بورقة زعزعة الصف الداخلي للثوار، وتقسيم جبهاته بل وزراعة جبهات جديدة من أجل سهولة نسف أي إمكانية لنجاح الثورة السلمية.
تجربة العراق منذ تغيير النظام ورموزه والتي كادت أن تنجح في تخطي المرحلة الانتقالية لولا فشل حكومة المالكي سابقاً في ضبط قواعد التوافق بين جميع المتصارعين والتجائه لاستراتيجية التقارب الإيراني، الأمر الذي جيَّش جبهة العشائر السنية وفتح المجال بالتالي لتدخل الأطراف الخارجية وفتحت جبهة العراق على حروب طاحنة لن تخرج منها البلاد إلا بتوافق دولي قبل أن يكون توافقاً داخلياً.
في مصر لم تستطع جماعة الإخوان استجلاب الأيدلوجيات المعارضة لها لمربع التوافق، وبالتالي قطع الطريق على تدخل المؤسسة العسكرية، ولم تلعب التنظيمات الشبابية المشاركة في الثورة في جعل القوى المتصارعة ترضخ لمسلسل التوافق الذي يفرض تقديم التنازلات والارتهان إلى مصلحة الوطن على حساب مصلحة الحزب والتنظيم. الأمر الذي جعل الجيش يلعب بورقة الأمن القومي ومصلحة الوطن التي تقتضي قيادة مرحلة الانتقال نحو تشكيل سلطة جديدة.
التجربة التونسية هي الوحيدة لحد الآن التي نجحت في تخطي عقبة التوافق السياسي وتأسيس دستور توافقي وانتخاب حكومة توافقية رغم ما تحمله هذه النظم التوافقية من سلبيات وانتكاسات سياسية ستؤثر على مسار صياغة سلطة مستقبلة بالمعايير الديمقراطية. بمعنى آخر، التنازلات التي قدمتها حكومة الترويكا كانت استراتيجية بالشكل الذي يجعلها تتفادى أية معارضة شعبية ضاغطة، ويجعلها في مأمن من نهوض النظام العميق ومؤسساته، وهي المحاولة التي قام بها هذا الأخير عندما تم اغتيال رمزي اليسار التونسي شكري بلعيد والبراهمي.
ولكن الصيغة الدستورية التي نجمت عن هذا التوافق ستصبح عبئاً سياسياً على العملية الديمقراطية في تونس عندما تتحوّل إلى شرعية تاريخية مستقبلية تتفاوض باسمها الأحزاب التقليدية وتجعلها قيمةً مضافةً في وجه الفاعلين الجدد. لذلك فإن التوافق وما تفرضه من نُظم يجب أن تبقى وليدة اللحظة التاريخية التي أفرزتها وأن ترتهن بالأهداف المرحلية التي من أجلها اتفق جميع الفرقاء السياسيين.
الديمقراطية التوافقية إذن هي مجرد صيغةٍ من صيغ الانتقال إلى الديمقراطية التمثيلية أو المباشرة دون أن تشكل بديلاً لها والتي تفرض نوعاً من الصراع السياسي والتنافس الأيدلوجي على البرامج الانتخابية، وعلى المقاربات السياسية لإدارة شؤون الدولة. وهي الصيغة الأكثر مناسبةً لإدارة محطات الثورات السياسية والانتقال الديمقراطي، أما النموذج الديمقراطي المطروح في المجتمعات المتعددة بشكل حاد مثل لبنان فهو النموذج التشاركي الذي يفرض إشراك جميع الفاعلين في العملية السياسية بما فيهم الأحزاب والمنظمات المدنية والأفراد وغيرهم، ولكن في محطات الاستقرار السياسي.
إن التوافق السياسي في دول الربيع العربي هو المدخل الأساسي الأقل تكلفة والأكثر عقلنة والضامن للانتقال السلمي للسلطة بدون الوقوع في مستنقع الحروب الأهلية كما يحدث في العديد من البلدان. لكن لهذا التوافق معوقات، ومنها غياب الرغبة السياسية الحقيقية لدى الأطراف المتصارعة وغلبة المعطى الأيدلوجي المحض وضعف مقاربة الوضع الاستراتيجي وتدخل الأنظمة الخارجية بما يراعي مصالحها، ثم توغل النظام العميق ورموزه في إشعال الثورات المضادة لكي تعيد صياغة الخريطة السياسية والاقتصادية بالشكل الذي تريد.
الرهان في المرحلة المقبلة هو بشأن تشكيل جبهات وطنية توافقية تضم الشخصيات والرموز الوطنية والقوى الاقتصادية الضاغطة والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني من أجل وقف القتال والحروب أولاً، ثم من أجل تعبيد الطريق في أفق إنشاء مؤسسات حرة وشفافة تضمن الانتقال إلى النظام الديمقراطي التعدّدي المباشر، وهي الطريق التي بدأت بلدان الربيع تراهن على سلكه.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 4977 - الجمعة 22 أبريل 2016م الموافق 15 رجب 1437هـ