بالتشخيص... التمثُّل... بالمسرح انشغل. أتاح له ذلك قدرة على إعادة ترتيب وتربية مخلوقاته وعناصره في النص الذي يسعى إليه. لديه حساسية تبعث على الإعجاب بانتخاب النفيس من القاموس الذي يمتح منه. النفيس الذي يُعادل الروح، ويبعث على الحياة. عن الشاعر مهدي سلمان أكتب... إليه ترمي هذه الكتابة... بنصِّه تُذكِّر.
مُذ «هاهنا جمرة، وطن، أرخبيل»، «السكك البصّارة»، «السماء تنظف منديلها البرتقالي»، «أخطاء بسيطة» «غفوت بطمأنينة المهزوم»، وما لا يحضرني من أعماله في المسرح أداء وكتابة، وهو يقيم عوالمه بثقة الغالب. الغالب على الظواهر من حوله، النائي بنفسه عن مَوَاطن الإفساد، وما يعكِّر صفو النفائس التي يبتغيها، ويشتغل عليها.
يقود هذا البورتريه في نصوصه. إلى ما يدلي به من إجابات عن بعض الاستنطاقات...الحوارات ذات القيمة، وهي قليلة. عن المحرَّم والمسموح الذي فصَّل فيه بالبسيط والعميق في الوقت نفسه. بين حساسية الخجل المُفرط، والإنسان البوهيمي، وانحيازه إلى النمط الثاني، من خلال حوار أجراه مازن نجَّار نشرته صحيفة «القبس» قبل زمن، ردَّ بالقول: «ربما ثمة أوقات أتمنى فيها أني تحوّلت إلى النمط الثاني، ولكن في الغالب لم أكن لأستطيع أن أكون كذلك، لم أكن لأستطيع أن أتعايش مع البوهيمي والثائر، على رغم كل سلبيات هذا الأنا الذي أعيشه، إلا أنني أشعر أني أكثر قرباً منه من شخصية ثائرة ورافضة ولا أبالية. ربما لأن الشخصية الثائرة والبوهيمية التي ربما كنت سأتحوّل لها كانت ستكون قاسية، وحادة، وجارحة... لا... لا أظن أني أستطيع أن أعيش هكذا».
تأخذنا هذه الكتابة/ البورتريه إلى ملامح من النصوص التي اشتغل عليها. حرصه والتصاقه بالإيقاع... بتلك الثنائية في وسامتهما: اللغة... الإيقاع. أن تآخي بينهما في نص يكتنز بالقيمة والمعنى والإدهاش.
في «على الفوضى نُطل»، نقرأ: «لن تذكريني بعدَ هذا،
لن تري شبحي يصبُّ الشايَ
في قدحٍ من الفخّارِ
وهو يردّدُ اسمكِ،
ثم تنتبهي فيندلق المساءُ على ثيابِكَ فجأةً
في شكل ذاكرة...».
ماذا عن نصِّه النثري... المفتوح أحياناً؟ هل يبلغ به المدى والفضاءات نفسها، كتلك التي في الأولى؟ يحدث ذلك كثيراً. لن يقبض على ذلك... لن تصله الشحنة تلك إلا الذي لم يُصَب بمباشرة الإيقاع/ برَّانيته.
نقرأ في «لو عرفتِ»: «ماذا لو عرفتِ، أن هذا القمر الحزين، الذي يُسحج في شوارع النسيان، الذي أدفعه كل صباح بيدي ليسقط من النافذة، الذي كشبحٍ يخرج لي كل ليلة، هو حبك؟».
ماذا لو عرفتِ، أن هذه القصائد اللائي يجلسن معي كجنيات يضحكن ويبكين ويثرثرن ويصرخن ويحدقن في بياض الصمت، كلهن كلهن كتبن لنسيانك؟
يريد هذا البورتريه أن يذكِّر بمسألة قديمة لكنها تظل جديدة، ربما عرَّجت عليها أكثر من مرة، وفي أكثر من تناول: الشاعر الذي تنصب معرفته الأساسية في حدود قصيدته/ نصه، يعاني من وهم قاتل. ولن يُقدَّر لتلك القصيدة/ النص أن ترتاد آفاقاً جديدة، وتقبض على عوالم مبتكرة بمثل ذلك الاتكاء، والعكس صحيح. مهدي سلمان يتكئ على ما وصل إليه وما يستطيع الوصول إليه من المعرفة، وتظل القصيدة تعبيراً في أوجه من وجوهها عن تلك المعرفة.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4977 - الجمعة 22 أبريل 2016م الموافق 15 رجب 1437هـ