من بين خمسة رواد ألفوا وكتبوا في تاريخ البحرين، اختار المؤرخ والأديب سالم النويدري كتاب «التحفة النبهانية»، للشيخ محمد بن خليفة النبهاني وفق نظرة بحثية استعرض فيها جوانب مهمة في محتوى وأسلوب وهدف ذلك الكتاب الشهير، فيما تناول الشاعر والكاتب علي عبدالله خليفة التركيز وإلقاء الضوء على ندرة المادة المكتوبة في التراث الشعبي الغني.
فعلى هامش معرض «الوسط» للكتب المستخدمة الرابع، تحدث كل من سالم النويدري وعلي عبدالله خليفة في ندوة بعنوان: «تاريخ البحرين وجهود المؤلفين الرواد» مساء أمس الجمعة (22 إبريل/ نيسان 2016) ليعيدا التأكيد على أهمية البحث والتوثيق الأمين للتاريخ والتراث، وتحدث رئيس تحرير صحيفة «الوسط»، منصور الجمري في مقدمة للندوة، قال فيها: «إن ثاني ندوات معرض الكتب المُستخدمة تستضيف بكل فخر واعتزاز ثروات وطنية في بلادنا الغالية خصصوا جزءًا كبيرًا من الجهد لتوثيق النهضة القديمة والحديثة للبحرين في إنتاج يقرّب قلوب البحرينيين ويوضح العمق الحضاري والثقافي والاجتماعي الذي يمثل سر التماسك في نهضة بلادنا وعظمتها على رغم محدودية جغرافيتها الصغيرة، مثمنًا جهود كل من النويدري وخليفة في توثيق التاريخ والتراث، ومعبرًا عن التقدير لمشاركتهم في هذه الندوة ليثروا الحديث عن معالم تاريخ البحرين.
وفي استعراضه لورقته، قدم الباحث النويدري خمسة من أشهر المؤرخين، وهم محمد علي العصفور المتوفى في العام 1954 في كتابه المخطوط «الذخائر في جغرافيا البنادر»، ومحمد بن خليفة النبهاني المتوفى في العام 1950 في كتابه المطبوع «التحفة النبهانية» وناصر بن جوهر بن مبارك الخيري المتوفى في العام 1925 في كتابه المطبوع «قلائد النحرين في تاريخ البحرين»، وراشد بن فاضل البنعلي المتوفى في العام 1960 في كتابه المطبوع «مجموع الفضائل في فن النسب وتاريخ القبائل»، ومحمد علي التاجر المتوفى سنة 1967 في كتابه المطبوع «عقد اللآل في تاريخ أوال»، وانتخب كتاب «التحفة النبهانية» للتوسع في سبر أغوار محتواه، مؤكدًا بدايةً على أن التاريخ، وخاصة القديم منه، لا يمكن أن يدون من دون الرجوع إلى المراجع والمصادر العربية في التاريخ الإسلامي، وفي كتاب التحفة النبهانية يغيب التوثيق في المتن، ولم يعتد التوثيق في الهوامش.
وفيما يتعلق بالوثائق في «التحفة النبهانية»، ذكر الكاتب في المقدمة أنه اطلع على أوراق تاريخية مبعثرة في «سجلات دار الإمارة المخزونة في دار الأسفار» بالبحرين ظاهرًا وعدها من مصادره، لم نجد له إحالة عليها في متن الكتاب، وكان اعتماده في الروايات الشفهية على شخصين الأول هو (الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة المتوفى في العام 1933)، والثاني هو (الشيخ عبدالله بن سعد بن شملان المتوفى في العام 1917) حيث قال عنهما :»أوقفاني على جملة صالحة من الحوادث وأمداني بعدة وثائق تاريخية مهمة»، لكن في الحديث عن الهدف من الكتاب، استند النويدري على أن النبهاني كتب هدفه في (وضع كتاب يستوعب تاريخ المنطقة الخليجية عامة)، وكانت دوافعه إلى تحقيق ذلك الهدف العلمي تعود إلى شيوع الجهل بتاريخ عامة الإمارات العربية بالخليج وبتاريخ البحرين - على وجه الخصوص - كان مطبقًا، أما السبب الآخر فهو غيرته على التراث الحضاري لهذه البلاد، والسبب الثالث هو تشجيع أهل الفضل والنفوذ في البحرين كمحفز له على تأليف كتاب في تاريخ البحرين والإمارات العربية الأخرى.
وعرج النويدري في تقديم بعض النماذج مما تناوله النبهاني في تحفته، ومنها الحدث عن تكون اللؤلؤ بقول ينافي ما قيل قبله وهو «إن الصدفة تخرج إلى سطح البحر أثناء سقوط المطر، وتبتلع قطرةً من المطر، ثم تعود إلى قاع البحر فتتكون اللؤلؤة»، واكتشف ذلك بحسب وصفه نتيجة دراسته الطويلة، حتى أن المؤرخ راشد بن فاضل البنعلي ألف كتابه «مجموع الفضائل» وكأنه ينتقد وينقض ما جاء في «التحفة النبهانية»، قال فيما قال عنه: «يجافي المنطق والحقيقة، والخطأ ليس منه وإنما من المملي عليه»، وأفاض النويدري في استعراض نماذج من الكتاب ومواقف تاريخية اعترض عليها بعض المؤرخين كالتاجر والخيري والبنعلي، وخلص إلى حكاية الشيخ الجبري مع زوجة الوزير الطريفة ليس محلها كتاب تاريخ رائد يعتمد عليه مثل التحفة النبهانية وإنما محلها كتب الكشاكيل.
ووصف الشاعر والكاتب علي عبدالله خليفة ما طرحه النويدري بالبحث المعمق وطرح الأسئلة الدقيقة المتصلة بجوانب من تاريخ البحرين تستحق التأمل والمراجعة، لكنه تناول في وقت المخصص للحديث عما يتطلبه تدوين وتوثيق التراث الشعبي البحريني الغني، فهو بحاجة إلى الكثير من الجهد والكثير من التأكيد، فالمادة التراثية، في الغالب، ليست مكتوبة ولا يوجد لها مراجع يمكن الرجوع إليها إلا فيما ندر، متطرقًا إلى ما تناول المؤرخ راشد بن فاضل البنعلي حول «الغوص» واصفًا رحلته من جزيرة دارين ومطالعاته في الجزر الصغيرة والفشوت والهيرات، ويقدم وصفًا لعمق كل هير من الهيرات، وهو تدوين نادر في التراث الشعبي.
وتساءل: «من حقنا أن نتساءل... ماذا سنكتب عن التراث الشعبي؟»، ليجيب بالقول إن هناك العديد من الأمور المهمة في التراث الشعبي لم يتم التطرق إليها وهي على هيئة صور من البيئة البحرينية، كصور السفرة، الدلة، أدوات الغوص، لكن على سبيل المثال هناك معارف لا يمكن تصويرها كعلاقة الإنسان البحريني، وابن القرية، بالنخلة، فهل يعرف أبناؤنا من هو «المنبت» على سبيل المثال، وماذا يفعل؟ فعلاقة أهل البحرين بالنخلة لها مساحة معرفية تحوي الكثير من التفاصيل مما نفتقده.
وكحال «المنبت»، وهو الرجل الذي يدور في القرى ليقوم بتلقيح أشجار النخيل، نحتاج إلى المعرفة عما تعنيه «هبة الغواصين»، وهي جانب من تراثنا أعطاها الكثير من الناس أوصافاً عديدة لكن حقيقتها عائمة وغير واضحة، لأن أحدًا لم يسجل حقيقة تلك الهبة! وفي قطاعي الزراعة والغوص أمور غاية في الأهمية؛ لأن ذلك ارتبط بحياة «استلب فيها الإنسان»، فالغواص يقترض الديون ليؤمن قوت عياله ويشتري أدوات الغوص قبل بدء موسمه، وهذا الدين «مركب» ويزيد باستمرار في كل «دشة غوص» وربما يعود الغواص بدين أكبر، فإذا مات، يلزم دفع ديونه من جانب أولاده، وإذا لم يكن لديه اولاد يتم أخذ زوجته وهذا أقسى أنواع الاستغلال، ولهذا، فإن من الأمور الجيدة التي قام بها المستشار تشارلز بلغريف، أنه كلف طبيبًا يبحر إلى الهيرات ليعالج الغواصين، فالكثير منهم كان يكتم مرضه خوفًا من الكي الذي هو العلاج المتبع لكل الأمراض التي تصيب الناس وقتذاك.
وأطلع خليفة الحضور على ما قام به المستشار بلغريف، والذي كان سببًا لثورة الغواصين في العشرينات من القرن الماضي، عندما حاول منع الممولين من تقديم المال للغواصين، وهدد من يفعل ذلك بالحبس، فما كان من التجار إلا أن دفعوا الغواصين ضد هذا الإجراء، ومن تبعاته أنه وقع هجوم على مخازن الأغذية من إرز وتمور، لكن المهم الذي أشار إليه خليفة أن بحثه عن هذه الجوانب قاده إلى تسجيل واحد ممن عاصر تلك الفترة، ولديه تسجيل صوتي يتحدث فيه الراوي عن إفادات في تلك الواقعة، وكان يذكر من شاركوا من التجار وغيرهم... (فلان) قال لنا كذا... وفلان بن فلان قال افعلوا هكذا... وفي حادثة أخرى، في العام 1956، منع المستشار دخول آلة العود من الجمارك، وأمر بهدم الدور الشعبية التي كان البحارة يجتمعون فيها لممارسة الفنون باعتبار أن هذا التجمع غير مرغوب فيه.
وساق خليفة نقطة يراها مهمة في الكثير من الجوانب، إلى التحقيق وإلى كاتب محايد يقول الحقيقة كما هي، وحتى بالنسبة للمستشار بلغريف، ارتبط اسمه بالاستعمار لكنه حقق بعض الجوانب الإدارية ونظم بعض الأعمال، وكان ممن بلغنا من التراث الشفهي أنه كان ينظم العمل حتى في السوق والأسعار، وكان قد قال لأحدهم ويدعى يوسف كاز (بائع الكيروسين): «إذا أنت كاز فأنا كبريت»، ومن ذلك وقف (السلف) من التجار للغاصة حيث أعلنوا أن السبب ليس منهم لكن من المستشار مما أثار غضب وهجمة الغواصين، ويعلق خليفة بالقول: «لو كان المستشار قد درس فعلًا ماذا يعني السلف بالنسبة للغاصة لما وقع ما وقع».
واختتتم بالقول: إن هناك العديد من المعارف في حاجة إلى تسجيل ونقد وباحثين على استعداد للعمل، فيما أفاد رئيس التحرير منصور الجمري بمعلومة للحضور تتعلق بفتح الأرشيف البريطاني على شبكة الانترنت ما يوفر وثائق زادت على ميلون وثيقة، وتحوي وثائق قديمة وقيمة جدًّا، وتوجه الجمري في ختام الندوة بالشكر لما طرحه الباحثان من معلومات قيمة ولمشاركة الحضور في إثراء الحوار والنقاش.
العدد 4977 - الجمعة 22 أبريل 2016م الموافق 15 رجب 1437هـ