ليس حكما ثابتاً القول، إن أفضل من يمكنهم إدهاش العالم - على الأقل العالم من حولهم - بتجربة الفن الروائي، هم الشعراء، بعضهم طبعاً. وليس بالضرورة أن ينجح بعضهم في ذلك. وأفضل من يكتبون سيَر الترحُّل من بين قائمة من الكتَّاب، هم الشعراء أيضاً، بعضهم طبعاً؛ وليس بالضرورة أن ينجح بعضهم.
هل البدء بمثل هذا الحكم القيمي يبعث على الاطمئنان؟ المسألة لا تكمن في الحكم نفسه. قراءة الشاهد هو ما يمكن أن يسجِّل ما يتجاوز ذلك الحكم، بالوقوف على التجربة وتجلِّيها، والتماس مواطن الإبداع وما تم الإمساك به، والوقوف عليه.
الشاعر، والروائي، والباحث، والمترحِّل العماني الصديق محمد الحارثي، واحد من الأسماء المهمة والعميقة، ليس فقط بعينه الملاحِظة والحاضرة، بل بقدرته على إعادة اكتشاف المكان. الأهم من ذلك، القدرة على استنطاق المكان وبشره وتفاصيله.
الطريق إلى كتمندو، عاصمة النيبال، تمر بالهند. حديث عن خطوط طول وخطوط عرض غامضة «لا يدرك المرء ماهية تجلِّيها سيرورة حياة موازية لحياته». ذلك ما يبدأ به الحارثي تأمله وقراءته وإعادة تركيبه وتموضعه في المكان. الترحُّل ليس تسكُّعاً. يمكنك أن تفعل ذلك في موطنك... بيتك... على أرصفة بلادك، وما توارى فيها من جنَّات أو جحيم أيضاً. الترحُّل ليس كذلك. هو القدرة على أن تنبِّه إلى مقاصد وقيمة المكان الذي تأتيه زائراً. الزائر يرى بعين أخرى. المقيم يألف كل شيء. وفي الألفة تضيع قيمة وتفاصيل، ولا قيمة للتأمل وإعادة التركيب في كثير من الأحيان.
أن تجعل من القارة قرية والعكس
في التقاء المُصادفة، «بينود» والحارثي حيث ولاية غوا الصغيرة، تلك التي مازالت محتفظة بسحرها الكولونيالي البرتغالي. في تعدُّد المكان. ولابد أن يتعدَّد. المكان المُفرد يُفوِّت عليك اكتشاف قارة من مظانِّك وما تظنه يقيناً، ولو كان المكان بحجم قرية. أن تجعل من القرية قارة. أن تمتلك القدرة على رؤية القارة قرية أيضاً! من مطعم زنجبار يتعرَّف على النادل النيبالي بينود شارما، حيث سيكون الدليل إلى بلاده. لن يرى الدليل ما جاء الحارثي لرؤيته... قراءته... اكتشافه... والأهم من ذلك: شعْرنته.
من زيارة القلعة الحمراء التي بناها الإمبراطور المغولي شاه جهان في عاصمة الهند، ومساحة يفردها الحارثي التزاماً بما اسماه «أيقونة الوصف»، مروراً بزيارة قطب منار، التي بنيت في العام 1200م بأمر من الحاكم قطب الدِّين آيبك.
يكتب عن لوحات فيلسوف وشاعر الهند الكبير رابندرانات طاغور، وبين أعماله يلتفت إلى أعمال مواطنه الهندي ناندالال بوز (1883-1966)، بأعماله الكلاسيكية، وجاميني روي (1887 - 1972). لوحات طاغور التي تدفع إلى التأمل «ليس في اللوحة البورتريه - وهو رسام البورتريهات من الطراز الرفيع - ولا كثافة الطبيعة البنغالية الصامتة في احتشادها اللؤلؤي الشفيف»، عن الروح يبحث ويتأمل في تلك اللوحات.
عن أهمية زيارة ضريح ومقام الأديب والمتصوف الهندي نظام الدين أولياء (نظام الدين محمد بن أحمد بن علي الخالدي الدهلوي، كان أجداده من مدينة بخارى، وقد هاجروا إلى الهند وقطنوا مدينة بدايون)، يقف على ما يشبه المعجزة في بناء ضريحه قبل موته، والعنت الذي واجهه من قبل الحاكم الهندوسي الذي عمل على الحيلولة دون بناء الضريح، وعدم العمل نهاراً، وعدم استخدام الكيروسين ليلاً، وقصة البرْكة المباركة التي أوعز لعمَّال ضريحه أن «اغرفوا من ماء هذه البرْكة المباركة، وضعوه في مصابيحكم وأشعلوها».
درس تعلُّم لا اكتشاف
في الكتابة عن كتمندو وفيها وعليها وحولها، يُشرك الحارثي القارئ في حزمة متراصَّة ومعقَّدة؛ إلا أن عين الشاعر وغرقه في التأملات يمنح تلك التفاصيل قدرتها على الإغواء. لا يتعامل مع المدينة... المكان باعتباره درس اكتشاف فحسب، بقدر ما يتعامل معه باعتباره درس تعلُّم ضروري. يمنحه ذلك قدرة على إعادة اكتشاف مكانه الأصلي أيضاً. بعض الأمكنة تفعل ذلك بقدرتها على استدراجك لإعادة اكتشاف المكان الذي جئت منه، وأنت منشغل ومنهمك بتفاصيلها خارج مكانك... حدودك. بعض من مكانك الأول قد تجده في مكان بعيد، وقد يبدو غريباً عليك. ما يزيح تلك الغربة، أو الاغتراب هو قدرتك على الاقتراب منه من دون تصنُّع، ومن دون فذلكة، ومن دون تعالٍ أيضاً عليه. حين تتعالى على المكان لن تجد بُغيتَك.
استعراض التفاصيل الصغيرة، أو تلك الكبيرة في الكتاب أمر عصيٌّ، وقد يخرِّب على القارئ متعته الحقيقية. متعة أن يكون على ارتباط مباشر بتلك التفاصيل. المراجعة التي تغوي القارئ على الذهاب إلى عناء البحث عن كتاب لا تكشف سرَّه، بل تقدم ملامح من ذلك السر، وجانباً من التفاصيل.
بعض عناوين الحارثي، لا تغفله عين شاعرة. ينتقيها... ينحتها مع شرط أن تكون متموِّجة بالروح. لا التماثيل الخاوية على روحها. من فضاء الشعر يأتي من عوالم وضروب الكتابة، فيحيلها إلى فن... ورطة أخرى، تتمنى ألاَّ تنعتق منها. من بين العناوين تلك: مسلمان ومسيحية وهندوسي في معبد بوذي، وحيد القرن ليس وحيداً مع الشاعر، قناديل اليراعات المضيئة، بياض منهمر من عمائم القمم، وغيرها من العناوين اللافتة التي ستحمل في متنها قدرة مغرية وملفتة على السرد، بلغة الحارثي الشفافة والحادة في الوقت نفسه. بانتباهه الدائم للتفاصيل التي يبدو ألَّا قيمة لها في موضوعة السرد وتناوله.
من بين الكتَّاب العمانيين ونظرائهم، يظل الشاعر والكاتب محمد الحارثي الأهم في أدب الترحُّل من دون منازع - على الأقل في ما تم إنجازه في هذا الباب؛ إذ لم يتورَّط بالانشغال بالمشاهدات البرَّانية للمكان، ولم يكتفِ باستنطاق المكان وبشره؛ بل أن يقدِّمه كما يراه هو، لا كما يبدو أو كما يُراد له أن يبدو.
ضوء
يُذكر أن محمد الحارثي، شاعر وكاتب وروائي ومترحِّل عُماني. ولد في المضيرب العام 1962. حاصل على بكالوريوس جيولوجيا وعلوم بحار من جامعة قطر العام 1986. عمل في مركز العلوم البحرية والسمكية في الفترة ما بين 1987 - 1990. يتنقل بصفة مستمرة بين المغرب وعُمان.
نشر شعره في الدوريات العربية مثل: «الكرمل» و «مواقف». مهتم، إلى جانب الشعر، بكتابة المقال الأدبي. ويكتب إلى جانب الشعر العمودي قصيد النثر. له عدد من الإصدارات والمجموعات الشعرية منها: «عيون طوال النهار»، «كل ليلة وضحاها»، «أبعد من زنجبار»، «فسيفساء حواء»، قصيدة (150 نسخة فقط)، «لعبة لا تُمل»، و «قارب الكلمات يرسو»، مختارات شعرية، وصدر العام 2015.
له في الرحلات والدراسات والتحقيق: «عين وجناح»، رحلات في الجزر العذراء، زنجبار، تايلند، فيتنام، الأندلس، والربع الخالي، وقد فاز بجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي ضمن مشروع «ارتياد الآفاق». الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني (تحقيق ودراسة)، «ورشة الماضي»، أوراق في السرد، الشعر، السينما، وسير الترحُّل. «تنقيح المخطوطة» (رواية).
«مهجع بوب مارلي الشاهق»
هنا جانب من فضاء «محيط كتمندو»، ليس لكونه أكبرها بل بالإحاطة وذلك الربط الذكي في تعامله مع تجاوز تسجيلية تلك المشاهدات والحضور فيها.
«أخيراً، وبعناية إلهية لسنا بعيدين عنها، تلطَّفت صاحبة النزل لتخبرني أنني سأبيت ليلتي رفقة بوب مارلي في مهجعه الأكثر علوَّاً مما تخيَّله بوب مارلي نفسه، حيث تزين يافطة المدخل صورته الكلاسيكية في ألبوماته بشعره الأجعد المجدول وسيجارته الطافحة بهيولى النبوءات تُفصح عنها مزامير صوته النحاسي الأخن. سألتها: ولكن كيف عرفت سلفاً أنني سأسكن هنا؟... فأخبرتني بالحقيقة: دليلكم بينود أخبر المِرنان سائس بغلك باختياره هذا النزل، وكما ترى فبلدة مقتنات لا يوجد بها سوى ثلاثة مهاجع صغيرة للمبيت، ونحن أفضلها بالتأكيد. استسلمت لفصاحة لسانها الذرب، لأن كل ما حولي في بلدة مقتنات يؤكد صدق ادِّعائها الذي لا يُدحض.
هكذا جلست في الشرفة العلوية للمطعم، لأشاهد أكثر من قمة معمَّمة بالثلج خلال انتظار رفاق الرحلة الذين تأخروا بعد أن خذلتهم أقدامهم المشَّاءة، متأملاً صبر تلك الحمير الهزيلة ذات الأجراس الكبيرة في أعناقها، حمَّالة سلال القش المليئة بالأحجار لبناء مبنى مجاور. كم استثقلت ذلك، وكم انتبهت لحظتها لمدى خفَّتي على البغل تاشي. ولكن ما الذي يخفيه مهجع بوب مارلي الحجر خلف أبوابه الخشب؟... ما الذي يخفيه خلف صورته الشهيرة بشعر رأسه الأيقوني وسيجارته المعشوشبة بحرية تلك الأزمنة التي لم يعد لها وجود حتى في الذاكرة؟... أهي خصيصة المكان المتعالي على بعد فراسخ من أكثر آلهة الكون علوَّاً، لمراقبة الحياة والحياة والحياة في أكثر معانيها انخفاضاً وتواضعاً لاتعاظ الإنسان المخلوق، أو انتعاظ قرون رأسه ليفكِّر في لحظة مناسبة لاختيار إلهه المناسب الذي كان عليه اختياره منذ البدء؟».