في الحلقة السابقة، تم تلخيص أهم الآراء حول موقع دلمون الجغرافي، وتغيّر موقع دلمون بحسب تغيّر الحقبة الزمنية، بدءاً من بداية الحقبة التي ذكر فيها اسم دلمون في بلاد الرافدين قرابة العام 3200 ق. م. وحتى نهاية الحقبة التي ذكر فيها الاسم في بلاد الرافدين، وذلك قرابة القرن السادس قبل الميلاد.
هذا، وقد اعتمد الباحثون في تحديد الموقع الجغرافي لدلمون على النصوص الأدبية ووثائق المعاملات التجارية وغيرها من النصوص التي ورد فيها ذكر اسم دلمون، وجميعها عثر عليها في بلاد الرافدين. وهوية دلمون، ضمن تلك النصوص، تتغير بتغير الحقبة الزمنية؛ ففي أقدم النصوص كان الاسم يرتبط بأشخاص ووظائف وأدوات، ثم بدأ لاحقاً يرتبط بحضارة لها سيادتها المستقلة.
هناك العديد من الدراسات التي تناولت النصوص التي ذكرت اسم دلمون في حضارة وادي الرافدين، وتعتبر دراسات Glassner التي صدرت في الأعوام 1996، و1999، و2002، من أهم الدراسات الحديثة التي تناولت تطور هوية دلمون، وموقع دلمون، ولغة دلمون، من خلال تلك النصوص. وقد دعم Glassner دراساته بنصوص أخرى تم اكتشافها في البحرين وجزيرة فيلكا، إضافة إلى نتائج الدراسات الآثارية المختلفة في البحرين وفيلكا، والتي مكنته من إضافة تحليلات إضافية، بالإضافة لتلخيص نتائج الدراسات السابقة. وتعتبر دراساته مفتاحاً لجميع المصادر التي تناولت النصوص التي ذكرت دلمون، وكذلك النصوص التي عثر عليها في البحرين وجزيرة فيلكا.
وبحسب تلك الدراسات، يمكننا تقسيم الحقب الزمنية، التي تنتمي لها النصوص التي عثر عليها في بلاد الرافدين والتي ورد فيها ذكر اسم دلمون، إلى خمسة أقسام، وتمثل تلك الأقسام المراحل التي مرت بها هوية دلمون، منذ بداية تكوّنها، وارتباطها بأفراد وأدوات، وحتى ارتباطها بدولة لها سيادتها المستقلة.
الفترة ما بين 3200 – 2500 ق.م
لقد أظهرت الدراسات الحديثة للنصوص التي عثر عليها في مناطق مختلفة من حضارة وادي الرافدين، وجود العلامة الدالة على اسم دلمون في عدد من النصوص التي يعود أقدمها للفترة ما بين 3200 – 3000 ق. م.، كما توجد نصوص تعود للفترة ما بين 2900 – 2500 ق.م. وبصورة عامة، يلاحظ أن النصوص التي وردت فيها علامة دلمون في الحقبة ما بين 3200 – 2500 ق. م.، أي الحقبة التي تشمل حقب الوركاء وجمدة نصر وفجر السلالات، هي في مجملها نصوص اعتبرت اقتصادية، حيث ترد علامة دلمون مرة واحدة على الأقل في نص يعود للوركاء الرابعة في قائمة تعداد المهن التي جاء فيها اسم «جابي ضرائب دلمون». وفي حقبة الوركاء الثالثة (أو حقبة جمدة نصر)، وردت علامة دلمون في العديد من القوائم الاقتصادية، ومن الأسماء التي وردت «جابي ضرائب دلمون» و«فأس دلمون» ومنتجات أخرى كالمنسوجات ومشتقات الحليب (بوتس، 2003، ج1 ص 172 – 177).
وتتميز النصوص التي ذكر فيها اسم دلمون، والتي تعود للفترة 1900 – 2500 ق. م.، بأن اسم دلمون فيها يرتبط بنوع من الأوزان، يسمى شيقل دلمون (آل ثاني 1997، ص 56). يذكر، أنه من الصعب تحديد موقع جغرافي معين لدلمون من خلال هذه النصوص التي تعود للحقبة ما بين 3000 – 2500 ق. م.، إلا أن Glassner يرجح وجود نصوص تدل على أن دلمون ارتبط باسم مكان معين يوجد في جنوب بلاد الرافدين (Glassner 1996).
الفترة ما بين 2500 – 1800 ق.م
نصوص هذه الفترة في مجملها تدل على أن دلمون حضارة مستقلة بذاتها، وتوجد، على الأرجح، في الخليج العربي (البحرين وشرق الجزيرة العربية)، وتربطها بحضارة بلاد الرافدين علاقات تجارية. ومن النصوص المهمة التي عثر عليها في وادي الرافدين، والذي رجح أنه يعود للفترة ما بين 2370 – 2350 ق. م.، يذكر فيه ملكة دلمون، والتي قدمت مجموعة من الهدايا إلى ملكة لجش (Marchesi 2011). كما ذكر اسم دلمون في عدد من نصوص لجش الاقتصادية، والتي تعود إلى عهدي لوكال لندا (نحو 2370 ق. م.) وأور كاجينا (قرابة 2355 ق. م)، (بوتس 2003 ج1 ص 176 و ص 298 – 300).
كما تشمل هذه الحقبة نصوص العهد الأكدي، والتي يرجح عدد من الباحثين أن النصوص التي ورد فيها ذكر دلمون وتعود لهذه الحقبة، والتي وجد أغلبها على تماثيل نذرية لملوك الأسرة الأكدية في نيبور، إلى العلاقات التي اتسمت بالروح العدائية التي قامت بين دلمون وأكاد (آل ثاني 1997، ص 80).
يضاف لهذه النصوص، العديد من النصوص الدالة على العلاقات التجارية بين دلمون والحضارات التي قامت في بلاد الرافدين، والتي تنتمي للفترة ما بين 2000 – 1700 ق. م.، والتي يرد فيها ذكر تجار دلمون (يمكن الرجوع لهذه النصوص بصورة مفصلة عند آل ثاني 1997، ص 176 – 204). كل هذه النصوص تشير في مجملها، إلى أن دلمون في الفترة ما بعد العام 2500 ق. م. وحتى قرابة العام 1700 ق.م. كانت حضارة لها سيادتها المستقلة، وتربطها العديد من العلاقات التجارية مع الحضارات التي قامت في بلاد الرافدين.
الفترة ما بين 1500 – 1000 ق.م
المرجح أن دلمون بعد العام 1600 ق.م. وقعت تحت سيطرة القوى السياسية التي سيطرت على بلاد الرافدين؛ ومن الشواهد الكتابية على ذلك، وجود نص عثر عليه منقوشاً على ختم اسطواني، موجود في المتحف البريطاني، والمرجح أن هذا الختم يعود لأحد الموظفين المهمين يدعى (أوباليشو – مردوخ)، والذي يعمل عند أحد الملوك الكشيين. يذكر، أن أوباليشو – مردوخ، حفيد لملك دلمون. وبذلك، كما يرجح الدارسون لهذا النص، يوجد دليل لوجود ملك دلموني (ربما حكم دلمون قرابة العام 1400 ق. م.)، كان يعمل ضمن الإدارة الكشية التي سيطرت على بابل قرابة العام 1600 ق. م. (Reade 1986).
بالإضافة لهذا النص، يوجد نص آشوري، وهو نص الملك الآشوري Tukulti-Ninurta، الذي حكم آشور في ما بين 1243 – 1207 ق. م، والذي أعلن فيه أنه ملك دلمون وميلوخا. وبذلك، يلاحظ أن دلمون بعد العام 1500 ق. م. خضعت لسيادة الدولة المسيطرة على بلاد الرافدين (Lompard 1999 p. 130).
الفترة ما بين 700 – 500 ق.م
لا توجد أية نصوص تذكر دلمون بعد العام 1200 ق. م. وحتى قرابة العام 700 ق. م.، حيث ظهر اسم دلمون مجدداً في نصوص سرجون الثاني الذي سيطر على بلاد الرافدين، وأخضع بلاداً أخرى لسيطرته. ويذكر أحد النصوص التي عثر عليها في بلاد الرافدين، والذي خصص لوصف إنجازات سرجون الثاني، ومن تلك الإنجازات تم ذكر إخضاع أوبيري ملك دلمون، والذي، خوفاً من جبروت وعظمة سرجون الثاني، قام بإرسال العديد من الهدايا لسرجون الثاني. ويضاف لهذا النص، عدد من النصوص التي توضح تبعية دلمون للدويلات التي سيطرت على بلاد الرافدين حتى قرابة العام 500 ق.م. (يمكن الرجوع لهذه النصوص بصورة مفصلة عند بوتس 2003 ج1 ص 505 – 528).
الخلاصة، أن هوية واسم دلمون، من خلال النصوص المسمارية، مر بالعديد من المراحل، فتارةً ارتبط بأدوات أو أسماء وظائف، كما أرتبط بأماكن جغرافية، وفي مراحل أخرى ارتبط باسم حضارة لها سيادتها المستقلة، وفي مراحل متأخرة، أصبحت دلمون دولة تابعة للدويلات التي سيطرت على بلاد الرافدين. بالطبع، هذه المراحل أمكن التأكيد على صحتها من خلال الكشوفات الآثارية المختلفة.