لا تحتاج السينما لكثير من الصخب الميللودرامي لتحدث أثرها المطلوب في نفس المشاهد. وعلى عكس الأعمال التلفزيونية أو حتى المسرحية، لن يكون هناك ضرورة لأداء صاخب من الممثلين أو لمؤثرات صوتية أو بصرية فاقعة أو ما شابه، لإيصال حالة سينمائية ما. في الواقع لا تحتاج السينما سوى لكاتب جيد ولمخرج ذي رؤية مختلفة، ولممثلين قادرين على تجسيد أدوارهم وإيصال انفعالات الشخصيات التي يؤدونها بأكبر قدر ممكن من الإقناع.
في فيلم «45 عاماً» 45 Years، الفيلم الدرامي الرومانسي البريطاني، لم يحتج المخرج اندرو هاي لأي صخب لينقل للمشاهد ما يمكن أن تواجهه حياة زوجية هادئة من عواصف وإن طال زمن هدوئها واستقرارها. لن يكون نصه متخماً بالأحداث، ولن يصنف أبطاله لأشرار وأخيار، لجلادين وضحايا، لرجل قاسٍ وامرأة مضطهدة، كما هو النمط المتبع في الأعمال الميللودرامية. لن يبالغ في موسيقاه ولن يتعمد حشو الفيلم بمشاهد إثارة من أي نوع. سيقدم هاي فيلماً هادئاً متزناً في كل تفاصيله، مبنياً على سيناريو بناه هاي نفسه على قصة قصيرة للروائي البريطاني، الحاصل على عدة جوائز، ديفيد كونستانتين وهي بعنوان «في بلد آخر» In Another Country.
تدور أحداث الفيلم على مدى ستة أيام، يميزها هاي بعناوين فرعية تشير إلى أيام الأسبوع، بدءاً من الإثنين وصولاً إلى السبت. يسرد هاي في الفيلم تفاصيل الأيام الخمسة السابقة لاحتفال كيت (تقوم بدورها تشارلوت رامبلينغ) وجيف (توم كورتنيه) بعيد زواجهما، الذي يأتي بعد خمسة وأربعين عاماً من الحياة المستقرة الهادئة المتزنة.
وفيما تستعد كيت للتجهيز لحفلة كبيرة تدعو لها أصدقاءهما وتقيمها في صالة حفلات كبيرة ذات قيمة تاريخية، يتلقى جيف رسالة تعيد لذهنه ماضياً بعيداً، تفتح جراحات وذكريات مؤلمة، وتكشف للزوجين كم كانا غريبين طوال فترة قربهما.
تعيد الرسالة لجيف ذكرى حب قديم، انتهى بفقدان طرفه الآخر وهي كاتيا في حادث مؤلم في جبال الألب السويسرية. تحثه الرسالة على العودة لنبش ذكرى هذا الحب القديم، ويجد نفسه مضطراً وهو في هذا العمر وبصحته التي ضعفت بفعل عملية قلب، لأن يفصح لكيت عما لم يفصح به مسبقاً.
ولكي لا أفسد متعة المشاهدة عليكم، سأضطر إلى اختصار الحديث عن تفاصيل كثيرة من الفيلم، وسأكتفي بالقول بأن كيت وجيف يكتشفان فجأة أنهما يخفيان الكثير عن بعضهما، وأنهما بحاجة لأن يبدآ من جديد بعد عملية الكشف والبوح التي يعيشانها على مدى الخمسة أيام السابقة للاحتفال بذكرى زواجهما.
لكن عملية الكشف هذه، التي تبدو كصدمة في بعض تفاصيلها لكيت، لن تؤدي لأن تفقد هذه المرأة الستينية وقارها، ولن تطالعنا بمشاهد تذكرنا بالدراما الخليجية أو حتى العربية، إذ لن تنهار كيت، ولن نراها باكية فاقدة لإتزانها، لن تجرح جيف ولن يجرحها بالكلمات. نحن أمام علاقة واقعية في تفاصيلها، علاقة تشبه علاقاتنا في واقع الحياة، ولذا لن يتطلب نقل هذه التفاصيل افتعال أي صخب لإيصالها إلى المشاهد وإحداث الأثر المطلوب في نفسه.
فيلم هاي هادئ في كل مشاهده وفي كل حواراته، لا تتصاعد أحداثه بشكل دراماتيكي، لا يصرخ أبطاله، لا نسمع موسيقى حزينة في خلفيات مشاهده، لا تحدث بين كيت أو جيف أي صراعات ومعارك حب عنيفة. إنهما يتحاوران فقط، يفصحان لبعضهما عن كل ما لم يفعلاه سابقاً، ينقلان الحقيقة بكل عنفها وجراحها وما يمكن أن يكون لها من أثر على نفس الآخر، لكن بطريقة معبرة عن أرقى درجات الإنسانية والتحضر، يراعيان مشاعر بعضهما، يحترم أحدهما الآخر ويحرص كل منهما على الحفاظ على الإيقاع الهادئ المستقر في حياتهما.
يفصل هاي أحداث أيام الأسبوع، بمشهد لأراضٍ زراعية منبسطة تتجول فيها كيت مع كلبها «ماكس»، تشبه تلك السهول المنبسطة الهادئة بوداعة واتزان، حياة كيت وجيف. علاقتها بالكلب في مختلف تلك المشاهد وقدرتها على السيطرة عليه تشبه تماما قدرتها هي وجيف على الإمساك بزمام أمور حياتهما.
وكما لم يكن الفيلم صاخباً في طرحه، ولم يلجأ للابتذال الدرامي ليحدث أثره المطلوب، كذلك جاءت نهايته هادئة مفتوحة، لم تكن نهاية سعيدة لكنها لم تكن حزينة أيضاً. لم يفترق الزوجان ولم نسمع حوارات حول الخيانة أو الكرامة أو ما شابه من ترهات مختلف الأعمال التي تقدم على الشاشات، صغيرها وكبيرها، لكننا سنجد جيف وكيت يحتفلان بعيد زواجهما وسط أصدقائهما. سنسمعه يلقي كلمة في حق زوجته، ستأتي كلماته حول قرارات الشباب التي ندفع ثمنها في شيخوختنا، ممتزجة بدموع لن يتمكن من كتمها، سيثبت ما قالته لينا، صديقة كيت، بأن الرجال في الواقع أضعف من النساء عاطفياً وأقل اتزاناً!.
ستكون كيت سلبية في تعاطيها مع دموع جيف، وستبدو منعزلة عن جو الحفلة، لكنها ستظل هادئة، وسيظل انفعالها محلاً لقراءات مفتوحة من المشاهدين. هل تغفر لجيف إخفاءه حقيقة كاتيا بكل تفاصيلها، هل ستكون الحياة أفضل بعد عملية البوح تلك، وهل تستمر حالة الاستقرار والاتزان بعد ما حدث. ليس مطلوباً أن يجيب الفيلم على تلك الأسئلة، لكنها أسئلة مقترحة للتأمل من قبل مشاهديه، وهذا هو أفضل ما يمكن أن يحققه أي فيلم.
لن أعطي كل الفضل في بلاغة منطق هذا الفيلم وقوة تأثيره لمخرجه وهو كاتبه أيضاً، وحسب، لكني أرى بأن الثقل الأكبر وقع على عاتق الممثلين الرئيسيين تشارلوت رامبلينغ التي أدت دور كيت، وتوم كورتنيه الذي أدى دور الزوج جيف. كلاهما كانا قادرين على إيصال كل المشاعر المتضاربة والمتناقضة والانفعالات الكثيرة التي مرَّا بها طوال أيام، من دون أي تكلف أو مبالغة. لم تصرخ كيت ولم تنهار باكية، ولم تأخذنا إلى أي مشاهد ابتزاز عاطفي، ولم يحتج جيف لأن يقدم صورة الرجل الخائف الهارب من ماضيه وربما من حاضره، ولم يحتج لأن يغادر المنزل في فورة غضب عارمة. لم يحتج الاثنان لأي أداء ميللودرامي «مبتذل». رأيناهما شخصين واقعيين يعملان معاً على أن يواصلا الرحلة حتى نهايتها، ينقلان لنا أن ما بينهما ليس حباً وحسب، بل حياة استمرت لخمسة وأربعين عاماً، لا يمكن أن تهزها أي عاصفة.
أداء تشارلوت المدهش أكسبها جائزة الدب الفضي لأفضل ممثلة من مهرجان برلين الدولي للأفلام في دورته الخامسة والستين، كما حصل توم على جائزة أفضل ممثل في المهرجان نفسه. تشارلوت حصلت أيضاً على ترشيح لأوسكار أفضل ممثلة في دور رئيسي، إضافة إلى فوزها بجوائز أخرى حصلت عليها من جمعية نقاد الأفلام في بوستون ومهرجان إدنبره وغير ذلك من المهرجانات. كذلك حصل الفيلم ومخرجه على جوائز وتكريمات عديدة، عدا عن الترشيحات الكثيرة التي تلقاها الفيلم، ولا عجب، فهذا الفيلم البريطاني المنتج العام 2015 يقدم حالة سينمائية لا تتكرر كثيراً.
شوقتيني ان ارى الفلم..سردك وتحليلك شيقان والمقارنات كانت ضرورية لتوصيل الفكرة
إبداع في الطرح وروعة في الإنتقاء.
طرح يستحق المتابعة.
أحييك على أختياركِ الرائع والمميز.
موضوع شيق جدا، زرع في نفسي بعض الفضول والتساؤلات!
كيف استطاعت كيت أن تكبح مشاعرها وتخفي هالة الحزن والغضب عن زوجها جيف؟
ولماذا أخفى جيف حُبه القديم عن كيت؟
السؤال الذي يتبادر إلى ذهني حالياً،
لماذا لم تغفر كيت لجيف حبه القديم، ولربما هي تعلم أن لا أحد يقتسم مشاعر جيف معها؟
وما الذي يمنع أن تنجو علاقتهما من كل ما يعصف بها؟
لقد أجبرني طرحك على مشاركة أحساسي بصدق
وإيماناً مني بقلم يختار أجود المفردات.