الهجرة السرية أو الهجرة غير المنظمة أو غير النظامية أو غير القانونية أو الهجرة غير الشرعية، أو ما صار يعرف بـ «الحرقان» أو «الحريك» (الحريق) ثمّ صار يعرف كُنْيةً بـ «قوارب الموت»... كلّها مترادفات لآفة خطيرة تحدّق منذ عقود بشباب بلدان المغرب العربيّ، وتعتبر تهديداً أمنيّاً لتونس والمغرب والجزائر وبدرجة أقلّ ليبيا وموريتانيا.
واللافت أنّ مشكلة الهجرة السرية تعقّدت أكثر فأكثر في العقود الثلاثة الأخيرة، ولاسيما بعد التغيرات الحاصلة في تونس وليبيا، واشتباك هذه الظاهرة مع التنظيمات الإرهابية، حتى صارت ثلاثيّة الأبعاد بحكم موقع هذه البلدان بين ضفّتي المتوسّط، وغدت بلدان المغرب العربي لا فقط مصدراً للمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين، وإنّما أيضاً معبراً ومحطة للعديد من الأفارقة، وحتّى الآسيويين.
لم تكن الهجرة غير الشرعية وليدة السنوات القريبة الماضية، ولا نتيجة الانفلات الأمنيّ بعد الإطاحة برموز الحكم في ليبيا وتونس، بل لقد عرفت دول ضفّتي المتوسط هذه الظاهرة منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتّى أواخر الستينيات منه، وكنتيجة محتملة لفترة الاستعمار الأوروبي، وبرغبة من أوروبا نفسها لحاجتها الشديدة إلى الأيدي العاملة بعد الحرب العالمية الثانية. لذا، لم يبدأ التفكير في إصدار قوانين تجرّم عملية الهجرة غير الشرعية إلى أراضيها إلاّ مع أوائل السبعينيات حين حقّقت دول أوروبا الغربية نسبياً الاكتفاء من الأيدي العاملة الأجنبية، فسنّت ترسانة من التشريعات بهدف الحد من الهجرة إلى أراضيها، تعاظمت هذه القوانين في بداية التسعينيات مع التوسع في الاتحاد الأوروبي، ومع دخول اتفاقية «شنغن» حيز التنفيذ العام 1995، وهو ما أدّى تدريجيّاً إلى استفحال ظاهرة الهجرة غير الشرعية كردّ فعل على سياسة غلق الأبواب أمام الهجرة القانونية.
ومن نافلة القول التذكير بأسباب الهجرة السريّة من بلدان المغرب العربي إلى أوروبا؛ فالأسباب الاجتماعية والاقتصاديّة وغياب منوال تنموي واضح لأغلب الدول المغاربيّة، ساهم ولايزال في الدفع بقوارب الموت نحو المجهول، وخاصّة أنّ عامل القرب المكاني يشجّع الشباب نحو هذا «الفردوس المنشود»؛ إذْ لا تفصل مثلاً مدينة طنجة المغربية عن سواحل إسبانيا سوى 14 كيلومتراً، كما لا تبعد سواحل تونس الشمالية كثيراً عن مالطا وجزيرة لامبدوزا خصوصاً، فضلاً عن شساعة الساحل الجزائري والليبي على الضفة الجنوبية من المتوسط من جهة، وكثرة التبادلات التجارية البحرية عبر موانئ بلدان المغرب العربي وبلدان شمال البحر الأبيض المتوسط من جهة أخرى، ما يدفع بالشباب المغاربي إلى رحلة المجهول.
لكنّ الجديد في هذه الهجرة غير القانونية أنّ خيوطها قد تشابكت مع ازدياد عدد الأفارقة الذين يعبرون إلى دول المغرب العربي بشكل أو بآخر محاولين الوصول إلى سواحل أوروبا الجنوبية. وهي حالة لم تستعدّ لها الدول المغاربية بل هي تفاجأت بالعدد المهول لهؤلاء المهاجرين؛ إذْ يعبر منهم عدد قليل إلى أوروبا، ويموت مثله أو أكثر غرقاً في البحر، لكن يستقر غالبية أولئك المهاجرين الأفارقة في دول المغرب العربي إمّا في انتظار اقتناص فرصة أخرى للعبور غير القانوني أو اقتناص فرصة للعمل في دول المغرب العربي ولو بأجور زهيدة، ما يزيد في حدّة البطالة بين الشباب المغاربي.
وممّا يزيد في تفاقم المشكلة أنّ البلدان المغاربية لا تملك تقاليد حقوقية راسخة، ولا قوانين منسجمة تراعي حقوق المهاجرين إليها من الأفارقة وبعض الآسيويين (من الصين خصوصاً)، فهي حديثة عهد بهذا النوع من الهجرة. بل لربّما تقع بعض المجتمعات المغاربية في تعاملها مع بعض المهاجرين الأفارقة أو غيرهم في المحظور ذاته الذي تقع فيه الدول الأوروبية من عنصريّة وسوء معاملة قد يصل حدّ الاستغلال وخاصة في بعض المهن التي صار بعض الشباب المغاربي يترفّع عنها.
وقد غدا هاجس مكافحة الهجرة السرية من أولويات مخططات الدول الأوروبية والمغاربية على حدّ السواء؛ ذلك أنّ التحرك ضد شبكات مافيا الهجرة السرية ليس بالأمر الهيّن، وإنما يقتضي الصبر والحزم في آن واحد، فضلاً عن التعاون والتنسيق بين الدول المغاربية من جهة ودول الحوض الشمالي للمتوسط من جهة أخرى، والتي يتعين عليها وقف الشبكات الأخطبوطية المتواجدة في أوروبا والتي تخطط من هناك، وبعيداً عن أعين الأمن في بلدان المغرب العربي
وللأسف غلبت المقاربة الأمنية وعسكرة الحدود في وجه المتدفقين من الشباب المغاربة، وظهرت الأرقام المفزعة التي تتناقلها وسائل الإعلام لتكشف حجم مآسي الهجرة السرية وما تخلّفه وراءها من موت لدرجة أنّ الموت غرقاً صار القاعدة والنجاة استثناء. إلاّ أنّ المقاربة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية هي التي يجب أن تسود وذلك بضرورة ترسيخ دعائم اقتصاد متين منفتح في الدول المغاربية والاستفادة من هذه الطاقات الشبابية التي تمثل رأس مال مهم في مجال التنمية، فضلاً عن دور دول الاتحاد الأوروبي في إقامة مشاريع تنموية وعلى نطاق واسع في بلدان المغرب العربي حتى لا يحتاج الشباب إلى ركوب الخطر في اتجاه الضفة المقابلة للمتوسط.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4973 - الإثنين 18 أبريل 2016م الموافق 11 رجب 1437هـ
الهجرة السريّة (قوارب الموت، المهاجرين غير الشرعيين، الحرقة أو الحريق......)
يبدو أنّه تمّ تعويضها بـــــــ"الهجرة الجنيّة" إن صحّت العبارة
الهجرة الى الجنة التي تعد بها داعش ومن لفّ لفّها من حركات التطرّف
شكرا على المقال
كان بودنا مزيد التوسع في هذه الفكرة
(واللافت أنّ مشكلة الهجرة السرية تعقّدت أكثر فأكثر في العقود الثلاثة الأخيرة، ولاسيما بعد التغيرات الحاصلة في تونس وليبيا، واشتباك هذه الظاهرة مع التنظيمات الإرهابية،