لن تتمكَّن حال زيارتك مدينة سول (وهكذا تُنطق بدلاً من سيئول) من تجاوز محطة من أهم المحطات الثقافية في كوريا الجنوبية. ستتوقف طويلاً عندها؛ وستجد أنها مفتاحك الأول لفهم ثقافة وتراث وتقاليد، وجزء لا يستهان به من تاريخ هذا البلد. حين تزور هذه المدينة القابعة بهدوء على نهر هان ستُفاجأ بها تكشف لك لغزاً يفتح لك أبواب ثقافتها على مصراعيه، ستأخذك من بوابة طعامها لتعرفها أكثر ولتحبها أكثر.
الطعام الكوري وثقافة طهيه وفلسفة تناوله وتقديمه، وهي أحد أهم المحطات التي لا يملك الزائر أو المهتم بمدينة سول، إلا التوقف عندها. بالنسبة لي كانت تلك محطة رئيسية سادت رحلتي إلى مدينة سول مطلع شهر أبريل/ نيسان الجاري، وهي الرحلة التي جاءت بناءً على دعوة من وزارة الثقافة والرياضة والسياحة في كوريا الجنوبية، كأول صحافية بحرينية، تزور سول ضمن برنامج الوزارة الثقافي، وذلك للإطلاع عن قرب على جزء من الثقافة الكورية.
حقيقة الأمر هي أني لم أكن على دراية مسبقة بأهمية الطعام الكوري ودوره في الثقافة الكورية. أقلقني أمره، لاعتقاد خاطئ، لا أساس له، بأن طعمه سيئ. لكن ما عشته خلال رحلتي التي استغرقت ستة أيام، نسف كل تلك المعتقدات وأثبت عكس ذلك.
منذ مواجهتي الأولى مع هذا الطعام، علمت أن الكوريين يحملون اعتقاداً راسخاً بأن «الطعام هو أفضل دواء»، وبأنهما، أي الطعام والدواء، يأتيان من المصدر نفسه؛ ولذا تتشابه وظائفهما وأدوارهما. علمت أيضاً أن الطعام الكوري صحي للغاية جنّب كوريا شر الإصابة بأمراض اجتاحت دولاً كثيرة محيطة. يؤمن الكوريون، بأن الصحة والمرض يأتيان من الغذاء وكيفية تناوله. لعبت هذه الفكرة دوراً في تطوير الأدوية الشعبية الكورية التي تعتمد أساساً على فكرة اللجوء إلى الدواء، فقط، حين يعجز الغذاء عن ذلك.
هذه الأهمية التي يعلقها الكوريون على الغذاء، وأشكاله، وتنوعات وصفاته، هي ما يمنح الطعام الكوري الأهمية التي أتحدث عنها، وهكذا كان الحال عندي؛ إذ إن الطعام كان هو محطتي الثقافية الأولى ولربما الرئيسة خلال هذه الرحلة الثقافية في سول.
اللقاء الأول... وزهور اللوتس
منذ مسائي الأول في سول، فاجأني المطبخ والطعام الكوري. لقائي الأول معه كان عبر مطعم للنباتيين أخذتني إليه منسقتا البرنامج أليس كيم ورايتشل، حال وصولي المدينة. كنت مرهقة بفعل رحلة الطيران الطويلة، لكنني وجدت أن رفض دعوة عشاء من هاتين الفتاتين اللطيفتين للغاية، سيكون أمراً غير لائق البتة.
تبدَّل الحال حين وصلنا المطعم، كانت ابتسامة موظف الاستقبال وأدبه الشديد وحفاوته بيننا كفيلة بأن تبدِّد كل الإرهاق. انحنى حال دخولنا وقال «أنيوهاسيو» (وتعني أهلاً). بالمناسبة يتمتع الشعب الكوري بلطف ودماثة خلق عاليتين ستلحظهما ما إن تطأ قدماك أرض المطار.
بمجرد جلوسنا قُدمت لنا أكواب شاي الجنسنغ والمشروم البارد. علمت حينها أن الشاي يسبق كل وجبات الطعام في كوريا، ويشرب بارداً أو ساخناً. بداية لم أتحمس لشرب شاي بارد، على الأقل فيما معدتي تتضوَّر جوعاً وتتوق للطعام، لكن تغير كل شيء بعد الرشفة الأولى. ووجدتني طوال ستة أيام هي عمر رحلتي، لا أتوقف عن شرب الشاي بكل أنواعه وخلطاته الكورية اللذيذة، بل إنني عدت محملة بأصناف مختلفة من هذا الشاي المختلف والمميز.
بعدها بدأت الأطباق تتوالى، عليَّ أن أخبركم أن المائدة الكورية هي مائدة فخمة بتنوع أطباقها، الرئيسة والجانبية. في هذا المطعم النباتي، كانت كل أطباق مائدتنا نباتية، تعتمد الرز والأعشاب والخضروات وبعض الأطعمة البحرية كمقادير لها. كانت كل الأطباق تبدو شهية ورائحتها طيبة لكني لا أعرف أياً من مقاديرها، سوى سلطة سمك السلمون.
مضيفتاي كانتا حريصتين على شرح تفاصيل دقيقة لكل طبق على الطاولة، أكدتا لي باستمرار أنه لا لحوم ولا دجاج ولا كحول أو دهون حيوانية في طعامي. مع السلمون ترددت، لا لشيئ إلا بسبب حساسية قديمة من الطعام البحري تحرمني من التلذذ بأنواعه. لكنني أمام منظر الطعام ورائحته، قررت المجازفة وليحدث ما يحدث.
لم يؤذني السلمون، وستكون تلك البداية المبشرة فاتحة خير لعلاقة طيبة مع طعام الكوريين، كما ستكون أول إشارة أتلقاها حول القيمة الصحية العالية لهذا الطعام. أعجبتني السلطة كثيراً فسألته عن وصفتها، علمت أنه تم سلق السلمون، تبريده، ثم خلطه مع الخضار، الممزوجة بصلصة الأترج «الترنج». يومها عرفت أن الأترج فاكهة مهمة، تصنع منها صلصة لذيذة للسلطة، ويشرب شايها، بارداً أو ساخناً، وهو شاي لذيذ ومختلف.
أغرب ما وجدت على المائدة كان طبقاً احتوى نوعاً من الخضار ذات الشكل الدائري الغريب، لم أحب شكله ولم أشأ تناوله، لكن أليس كيم أقنعتني بطيب طعمه. أخبرتني أنها جذور زهرة اللوتس المقلية، تناولتها على مضض، لكني ما أن تذوقت قطعة منها، حتى تناولت القطع الأربع في الطبق المخصص لي.
إلى جانب ذلك ضمت مائدتنا أنواعاً مختلفة، من أوراق الملفوف المحشية بالرز والخضروات والتي يتم تناولها مع الكيمشي، وهو محطة مهمة أخرى سأتوقف عندها في مقالات أخرى، وصولا إلى نودلز الرز والجنسنغ المسلوق والسبانخ وما يشبه «كباب» الخضروات، وكثير من الخضروات المسلوقة أو المقلية والممزوجة بصلصة الفلفل الحار «التشيلي».
هكذا كان اللقاء الأول مع الطعام الكوري، في هذا البلد الذي يعيش أربعة فصول ومواسم مختلفة. كانت هذه معلومة تردَّدت عليَّ مرات عديدة طوال الستة أيام. عرفت مغزى تكرارها لاحقاً، وكونها ترمز إلى أن المطبخ الكوري النباتي أصلاً غني بكل أصناف الأعشاب والحبوب والخضروات التي تختلف من فصل لآخر، والتي توفر مكوِّنات الأطباق الرئيسة والجانبية المتنوعة على المائدة الكورية. من جانب آخر، فإن موقع كوريا الجنوبية الجغرافي وحقيقة انفتاحها على البحر من ثلاث جهات يمنحها وفرة من الأسماك المتنوعة التي تشكل بدورها أساساً لقائمة لا حصر لها من الوصفات الشهية.
لم أندم حقيقة على قبول دعوة كيم ورايتشل وهي التي منحتني فرصة أول لقاء مع جزء لا يُستهان به من ثقافة كوريا، الطعام الكوري، كما منحتني متعة التلذذ بالمائدة الكورية العامرة الفخمة بأطباقها اللذيذة المتنوعة ذات المزايا الصحية العالية.
كذلك لن يتوقف اندهاشي بطيب الطعام الكوري ولذة طعمه مع انتهاء تجربة اللقاء الأولى هذه، بل ستتواصل هذه الدهشة وستتجدد معطياتها طوال مدة رحلتي.
اللقاء الثاني... سوق كون دونغ
في ثاني أيام زيارتي، بدأت ألاحظ مدى اهتمام الكوريين بثقافة الطعام. برنامج اليوم يدور كله حول الطعام. الطعام الذي صنع الكوريون له ثقافة وتقاليد خاصة ترتبط بإرثهم التاريخي والديني، ويكنُّون لتلك التقاليد كثيراً من الاعتزاز والتقدير والاهتمام.
تقاليد الطعام الكوري هذه قديمة تعود إلى بدايات تأسيس كوريا قبل ثلاثة آلاف عام من ميلاد المسيح، تتأثر بمعتقدات أهلها البوذية، التي تجعلهم يفضلون تناول الرز والخضار على اللحوم، وبالثقافة الكونفوشية التي تركِّز على مفهوم تناغم الغذاء الذي يتناوله الكوريون وانسجامه مع الطبيعة والبيئة الاجتماعية والثقافية التي يعيشونها، وهو ما أنتج مطبخاً مراعياً لظروفه بيئته الموسمية والإقليمية، حريصاً على تنويع مائدته بكل منتجات الطبيعة المحيطة، مضمناً إياها كل روائح هذه الطبيعة وألوانها ومذاقاتها المتناقضة، مستفيداً من كل مزايا تلك الأطعمة الصحية عملاً بمبدأ وحدة مصدر الغذاء والدواء السابق ذكره في هذا التقرير.
تصادف يوم بدئي البرنامج، الذي وافق 5 أبريل 2016، احتفال كوريا الجنوبية بيوم الشجرة؛ حيث يعبِّر الكوريون عن اعتزاز خاص بالأشجار في هذا اليوم، ويزرع كل منهم نبتة صغيرة يواصل رعايتها طوال عام كامل. في هذا اليوم كان موعدي الثاني مع الطعام الكوري، هذه المرة سأحضر ما أتناوله وسأحضر أحد دروس تعلم الطهي الكوري. بالمناسبة فإن بوابة الدخول إلى الثقافة الكورية تتم عبر الطعام، ليس تناولاً فقط؛ بل بالتوقف طويلاً عند أطباق المطبخ الكوري الشهية ومحاولة تعلُّم طهي بعض الوصفات. بالإضافة إلى ذلك فإن الطعام الكوري ودروس تعلم الطهي الكوري تتمتع بإقبال كبير ويلتحق بها طلبة من جميع أنحاء العالم يسجل بعضهم لحضور هذه الدروس عبر الإنترنت.
محطتي الأولى كانت في سوق كون دونغ المحلي Gyeongdong Market، وهو أحد أشهر الأسواق الشعبية التي يمكن ابتياع مختلف أنواع الخضروات والحبوب والأغذية البحرية منها. زرت السوق بهدف شراء مكونات ومقادير أول طبق كوري سأقوم بتحضيره.
التقيت عبر هذه المحطة بالمترجمة يونيس كيون سنغ، التي أمتن لها كثيراً لتكفلها بنقل كل المعلومات التي قدمت لي من مختلف الأطراف، بحرفية عالية. بعدها جاء لقائي بالطاهية الكورية مينسون كيم التي ستقدم لي أول دروس الطهي الكوري، وهي مالكة مدرسة Cooking Lab OME لتعلم الطهي الكوري. ستكون مينسون كيم مسئولة عن إعطائي درس الطهي الكوري الأول في رحلتي هذه. انضمت إلينا مدرسة بريطانية، وموظفة أوروبية، وفتاة صينية، كن قد سجلن لحصة تعلم الطهي الكوري هذه عبر الانترنت.
مدربتنا كيم مينسون تحمل شهادة في الطعام التقليدي من جامعة سوكمينوغ كما التحقت بدورات متخصصة في الطعام الكوري التقليدي وهي قد سافرت إلى أكثر من 20 دولة لتتعرف على الثقافات المختلفة والأطعمة المحلية للدول التي زارتها.
أخذتنا مينسون كيم في جولة في هذا السوق الشعبي المكتظ بمختلف أنواع الأعشاب والخضار التي لم أر شبيهاً لها في حياتي، ناهيك عن الأغذية البحرية المتعددة وخلطات الشاي الغريبة والمتنوعة وطيبة الطعم وغير ذلك من كل ما ينتج مذاقاً ونكهة خاصة لهذا السوق الشعبي. اقتنينا ما نحتاجه من مقادير للأطباق الكورية التي سنتعلم طريقة طهيها، وكانت ميسنون كيم قد قامت مسبقاً بشراء الدجاج من بائع مسلم مراعاة لوجودي في الفصل ولأتمكن من تناول طبق الدجاج. بعدها أخذتنا إلى مدرسة الطهي التي تملكها والتي لم تكن سوى مطعم صغير في نهاية زقاق ضيق، فاجأني بصغر حجمه، وبأنه لا يضم سوى مينسون كيم وعاملة تنظيف.
كان كل شيء في المطعم كورياً تقليدياً، أثاثه، تصميمه وفكرة نزع الحذاء قبل دخول المطعم وارتداء خف منزلي مريح بدلاً منه. بمجرد جلوسنا قُدِّم لنا شاي الأترج، كان بارداً ومنعشاً وطيب الطعم. عادة يشرب الكوريون الشاي قبل بدء الوجبة.
قالت الطاهية إنها ستعتمد قاعدة مهمة في درس الطهي الذي ستقدمه لنا وهي تضمين المذاقات الخمسة للطعام في الأطباق الكورية التي سنحضرها، وهي الحلو، والحاد، والمر، والمالح، والحار بفعل البهارات. أخبرتنا أن تجربة الطهي معها ستساعدنا على تذوق المذاقات الخمسة المختلفة الموجودة في الطعام الكوري.
تعلَّمنا في هذا الدرس عمل حساء الدجاج على الطريقة الكورية، وهو طبق غني بالأعشاب والخضروات وطيب الطعم كثيراً. لم تستغرق مدة تحضير الطعام فترة طويلة، بعدها جاءت المائدة عامرة بما لذ وطاب. احتوت المائدة أيضاً على طبق حساء الخضروات، وكعك الرز بالخضروات، والرز الكوري المسلوق، والتوتوريمو، وهو خليط مسحوق البندق والرز الذي يقدم مع صلصلة التشيلي الحارة.
طقوس المائدة الكورية
لا تراعي المائدة الكورية تقديم أطباقها ضمن نسق أو ترتيب معين، بل تقدم جميع الأطباق الرئيسية والجانبية، المالحة والحلوة وغير ذلك من مشروبات دفعة واحدة؛ إذ تُملأ بها الطاولة دفعة واحدة. ويتم ترتيب الأطباق بحيث تخصص لكل شخص حصته من جميع الأطباق، ولذلك تبدو المائدة مليئة دائماً بجميع الأشكال والألوان والروائح. توفر الأطباق الرئيسية والجانبية مجتمعة وجبة متوازنة تقدم للشخص جميع ما يحتاجه. وتتنوع الوصفات التي يقدم بها الطعام فهناك أطباق الرز المطبوخ، وأنواع الشوربات المختلفة، والسلطات المتنوعة. وتختلف طرق طهي هذه الوصفات بين السلق أو الشواء أو القلي أو التشويح أو الطهي بالبخار أو الطهي البطيء.
يحرض الكوريون أيضاً على إضافة البهارات إلى طعامهم وإضفاء تلك النكهة الكورية المميزة إليه. بالإضافة إلى ذلك يشتمل الطبق الكوري على البيض والمكسرات والمشروم. ومن الإضافات المهمة للمائدة الكورية الأطعمة المخمرة والمخزنة والموسمية وهي ما يجب أن يفرد له مساحة خاصة في حلقات مقبلة.
لم أندم على تلبية دعوة كيم ورايتشل، وسعدت كثيراً بالتعرف على الطعام الكوري النباتي في أغلبه، الصحي الذي أفقدني بضعة كيلوغرامات في غضون أسبوع. دهشت لما لاحظته من أن تناول الطعام بالنسبة للكوريين هو شأن ثقافي إلى جانب كونه حاجة طبيعية، وإن الأمر يرتكز أساساً حول كم التناغم الذي يصنعه الطعام مع البيئة المحيطة، ومع ثقافة وتاريخ هذا البلد.
تغيَّرت تصوراتي وأفكاري حول الطعام الكوري، وبدأت أنسج معه علاقة خاصة ستتطور خلال أيام الرحلة القصيرة. سأخبركم بالمزيد عن هذه العلاقة الفريدة المميزة في حلقتي المقبلة بإذن الله.
يتضح لي من المقال مدى تمسك الكوريين وأعتزازهم بتراثهم وثقافتهم وعدم تأثرهم بالأفكار الغربية أو الطفرة الحضارية ومواكبة متطلبات العصر في الوقت نفسه..
ربما يمتلك الكوريون الشعور والطاقة الإيجابيه بسبب أسلوبهم في تحضير وتناول الطعام الصحي وارتباطه بعاداتهم اليومية..
وشدّ أنتباهي أيضاً تسليط الضؤ على ثقافة الكوريين في أحترام الآخر كنوع من الأخلاق والقيم حيث لا تنفصل هذه الثقافه في مماراساتهم اليومية..
مقال لذيذ جداً يحتوي على عدة عناصر غذائيه وفكرية..
في أنتظار المزيد..
ملاحظات عجيبه وحس فني راقي
الله يرزقني و اروح خاطري اروحها من زمان
و معروف عن الكورين بأكلهم الصحي
و اجرب اكلهم و اتعلم طبخه