الرهان على الأصوات الشابة في الشعر تحديداً ليس من قبيل المقامرة؛ وليس من قبيل إطلاق الأحكام جُزافاً. روح الاكتشاف والتمرُّد، والوصول إلى منافذ الدهشة يظل مُتاحاً لكثير منها. قد تتعثُّر تجربة... تجربتان هنا وهناك؛ لكن مثل ذلك التعثُّر أو الاستسلام لحال من النجومية العابرة، والحضور المؤقت، يكاد يكون غير ذي أثر وملاحظة، بالنسبة إلى الذين يشتغلون على مشاريعهم الحاضرة والمستقبلية بروح القلق والواثق. القلق مع إنجاز كل مشروع، والواثق من أن تلك المتاهة لن تجد طريقها إلى النهاية.
في الملاحظ من إنجاز الأصوات الشابة، تلك القدرة على منح الأشياء ما يشبه الذات التي تنبض بالروح والحيوية.
بكل الكلام الذي سبق، لا يعني في الوقت نفسه غضّ الطرْف عن أخطاء وضعف ينتاب بعض التجارب تلك. السكوت عنها سيكون بمثابة فخ سيسهو عنه صاحب التجربة مع مرور الوقت، وسيعتبره طريقاً سالكاً له كي يتمرَّد للتمرد ذاته. أن يشيع الأخطاء في التجربة مطمئناً إلى أنه بمنأى عن المساءلة بعد توالي الإصدارات.
لا تحتاج إلى مناسبة لتبدأ مقدمة تسبق فرحاً بمجموعة «افتح أزرار صمتك»، للكاتبة البحرينية بتول حميد، الصادرة عن دار الفراشة للنشر والتوزيع بالكويت، ولم يحْوِ الإصدار سنة الطبع! متضمِّناً 75 نصاً تباينت مساحة كل منها بين اللوحة المكثفة، وتلك التي اتخذ بعضها منحى سردياً، وأحياناً ما يقترب من التداعيات... وأحياناً ما هو قريب من المونولوج.
«أنا» بتول حميد في تجربتها الأولى تقول الذات الجمعية فيما ترصد وتُشيِّء - أحياناً - قفزاً بها في كثير من الأحيان إلى منح تلك الأشياء ذاتاً. الذات النابضة. تتركنا أمام ما يشبه اللقطات المتدافعة لمشهد يبدو عادياً، لكنها ترتبه... تدخله في فضاء الشعر؛ أو هو قريب منه. تفقد تلك الأشياء عاديتها؛ بتلك الذات، وتكتسب قدرتها على أن تكون نابضة وممتلئة بالروح والحيوية. في طغيان الأزرق وإن لم يمتدَّ ليحتل مساحة النص. زرقة التفاصيل، والزرقة المنبعثة من الموسيقى، ربما من مكان بعيد. زرقة الستائر التي تدخل السماء في ضيافة البيت. زرقة المزهريات المبثوثة فيما يُرى وما لا يُرى.
في نص «سقف بلون أزرق»، نقرأ:
«في اللحظة الراهنة أحتاج فقط
لكنزة صوفية بأكمام طويلة
لستارة موسيقية
تحجب أبواق الشارع
ولمادة لاصقة لشرخ المزهرية»...
التوالي في المشهديات
تتوغَّل في الصفة... في التفاصيل... صيغة الماضي لا تعني أن الفعل منقطع... توالٍ من «المشهديات»... توالٍ من توليد الصور، بسيطها ومركَّبها، تكبو... تميل إلى تسطيح مقاطع - في اندفاعات لا يمكن تلمس طرق التحكم بها أحياناً - وتعود لتمسك بالشارد منها، في تحدٍّ مع نفسها... عالمها، وهو نفسه العالم الذي لا يمكن مواجهته من دون تحدٍّ.
من «الكنزة الصوفية» إلى مادة لاصقة. ما يلتصق بالجسد، وما يلتصق بالشيء في توظيف يبدو نقيضاً في موضوعه لكنه اشتغال على المشترك في التفاصيل. اشتغال على تآخي الشيء بالذات؛ دون التورط في الإدراكية لأي منهما. الإدراكية في قيمة الأداء وأثره.
في نص «ظلال»، حيث العابرون... والنذور... القبلات التي تتوهَّج بها الروح... الظلال السخية... التواريخ المؤجَّلة وهي في مهب النسيان. تكتب:
«مكتوب على ذاك الجبين المتغضِّن
بأني شجرة
يتفيَّأ العابرون ظلَّها
يحفرون على خاصرتها تواريخ حبِّهم
يسرقون القُبُلات خلف أغصانها الملفوفة بالنذور
ويمضون...».
الجيل الجديد في الكتابة أكثر اهتماماً بالتفاصيل من حوله... يلتقطها بانتباه وجنون أحياناً. ممتلئة خريطة يومه... وقته بها. مدى اهتمامه بها خارج الكتابة تلك مسألة أخرى؛ ولكنها ليست كذلك في حدودها. إنها في اللب منها. يصنع منها فارقاً، ويُشِيع دهشة، ويُعيد ترتيب النظر والتعاطي معها. لا يعني ذلك عدم تورُّطه بالإشكالات: محاولة بعض من الجيل الذي نعنيه حرق المراحل من دون أدوات مساعدة، قفزاً من تجربة إلى أخرى، دون أن تتضح ملامح ما تم البدء به، توغلاً في تجربة أخرى قد تؤتي ثمارها وقد تخيب.
واحدة من الإشكالات على الجيل الذي نعنيه أيضاً، نأيه بنفسه عن منابع التأسيس على مستوى اللغة خصوصاً، من حيث التمكُّن منها، والقدرة على الإمساك بقاموسه الخاص، وتراكمه وتجديده، ولا يتأتى ذلك من دون غنى وثراء وتوغل في تلك المنابع. ذلك لا يعني أن ينفصل عن لغة الوقت الذي يحياه، والعصر الذي يشهد تحولاته وقفزاته.
أثر التحشيد
تكاد المجموعة تقتفي أثر التحشيد في الصور، فمرة نحن إزاء لوحة، ومرة أخرى إزاء ما يشبه الشريط السينمائي، وأحياناً إزاء قصص قصيرة جداً، يظل الشعر مهيمناً عليها، بأداة الرهافة التي يصقل بها الأشياء، وحتى أوعية وأشكال الكتابة. في «تبَّاً يا حظ»، نقف على القهوة الباردة، تلك التي لا تكون كذلك إلا في فرار دفء، وإقامة وحشة، واستيطان استدعاء لمرارات تترى.
«للمانشيت الصباحي الذي عكَّر يومي
لنادل المقهى الأبله الذي علَّق نظرته
ومدَّ قهوة باردة
للحائط الذي أسندت إليه جبهتي بعد خيبة
للإبرة التي أخطأت الخيط ووخزتْ إبهامي (...)».
إصدار أول فيه الكثير من المحاولة، والكثير من البشارة، والكثير من الأمل بما هو أكثر إدهاشاً؛ إذا اعتزّت بما يمكن أن يعتبر وهناً وضعفاً في بعض النصوص. الاعتزاز بالأخطاء الأولى هو ما بعد الدرس الذي على كل منا أن يتعلَّمه: أن يعتقد بتجاوزه الأخطاء، ولكنه لن يفعل. سيُقدَّر لهذه المحاولة أن تكبر وتتعمَّق وتستوي، إن لم تجد في الملاحظات التي قد تبرز عبر مراجعة هنا أو هناك، عائقاً أو تثبيطاً لها، ولم ترَ فيها استهدافاً. الأخطاء درس الإتقان الأول. أن تكون كاملاً ذلك ما بعد المعجزة، والمعجزة الأكبر أن تجدد الكتابة كمالها بالتعلم من الأخطاء! «افتح أزرار صمتك»، نص أول (مجموعة) يستحق القراءة بمحبة أولاً، وللقراءة النقدية مجالها الآخر. إصدار أول كهذا وسواه، يحتاج إلى قسوة ومحبة. وإن كان لابد من القسوة فبمحبَّة؛ إلا أن القلب والنظر يميلان أكثر ما يميلان إلى طغيان المحبَّة على القسوة.
مجموعة رائعة شكرا على المقال