اكتسبت دراسة تونس وسياساتها رواجاً من جديد منذ اندلاع الانتفاضات العربية، وأحد الأسباب هو توافر مزيد من المعلومات عن البلاد وشئونها. ففتح الحيزات التي كانت مغلقة أو خاضعة لسيطرة مشدّدة سابقاً يتيح للباحثين والصحافيين والأكاديميين فرصاً لاستكشاف المسائل بطريقة نقدية ومعمّقة.
وفي هذا أجرى مركز "صدى" للتحاليل الشرق أوسطية دارسة حواراً مع للباحث تشارلز تريب الذي نشر بحثاً بعنوان "سلسلة أوراق العمل" الصادر عن مركز الشرق الأوسط في كلية الاقتصاد في لندن. وفي البحث الذي أجراه تريب، يستكشف تريب التأثيرات السياسية لانفتاح الحيزات العامة. ويعتبر أن إعادة تعريف الحيّز، والصراع على ما هو "عام"، وما يشكّل شأناً عاماً، يؤشّر إلى حدوث تغيير جوهري في ممارسة السياسة في تونس. فما نشهده في الأعوام الأخيرة، مع كل تعقيداته، هو ترسيم التونسيين لحدود "جمهورية تونسية" جديدة. وفيما يلي نص المقابلة:
ما الذي جذبكم في البداية إلى مسألة الحيّز ودوره في السياسة في تونس؟
اهتممت لبعض الوقت بدراسة الحيّز الحضري وتحديداً طرق تصميمه بهدف ترسيخ أشكال معيّنة من السلطة، إنما أيضاً كيف يتحوّل إلى موضوع الصراع وموقعه بالنسبة إلى من يحاولون تحدّي الوضع القائم. مع اندلاع الانتفاضات في تونس وأماكن أخرى في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تعمّق هذا الاهتمام لدي – لاسيما وأن الجزء الأكبر من الصراع السياسي تمحور حول احتلال الحيّز العام جغرافياً، من قبَل القوى الأمنية ومئات آلاف المواطنين، وكذلك عن طريق إعادة تملّك رمزية للمواقع حيث كان الحكّام الديكتاتوريون يؤكّدون حضورهم وسيطرتهم ويروّجون لهما.
وسط استمرار البؤس الاقتصادي والاستقطاب العقائدي والمشاغل الأمنية، كيف تُعتبَر مسألة الحيّز الجغرافي أو المؤسسي أساسية لدراسة السياسة؟
لا يجب النظر إلى "الحيز" على أنه مجرد مكان جغرافي. بل إنه يكمن، في أشكاله المكوَّنة اجتماعياً – الرمزية والمفهومية والخطابية، فضلاً عن المؤسسية والجغرافية – في قلب علاقات السلطة لأنه يمكن أن يؤمّن الأرضية للتعبير عن المصالح السياسية المتنافسة.
في تونس، كما في أماكن أخرى، وفي هذا الإطار تحديداً، يمكن لأشكال الإقصاء المنهجية الناجمة عن التفاوت الاقتصادي بين الطبقات والمناطق، أن تشقّ طريقها عنوةً نحو جدول الأعمال العام – كما حصل في 2010-2011 ومؤخراً في مطلع 2016. يستطيع المواطنون، عبر نقل مطالبهم إلى المساحة العامة، أن يتحدّوا أشكال الإقصاء التي غالباً ما تكون خفيّة والتي قد تحرمهم من حقوقهم. للسبب عينه، يمكن أن تتحوّل هذه الحيزات إلى المكان حيث يتجلّى الاستقطاب الأيديولوجي ويتبلور، وغالباً ما يؤدّي إلى تعميق الانقسام حيث يتّخذ المواطنون مواقف فعلية أو رمزية بعضهم في مواجهة البعض الآخر. لهذا تصبح القوى الأمنية التي لم تخضع لإعادة بناء، شديدة القلق ما يدفعها إلى اللجوء إلى وسائل القمع القديمة لفرض نظام معيّن من وجهة نظرها الخاصة باسم "السلم الاجتماعي".
في دراستكم الأخيرة، تركّزون على "الجمهورية" بدلاً من "الدولة". هل يلائم هذا المفهوم تونس على وجه التحديد نظراً إلى تاريخها ومؤسساتها، أو هل يمكن أن يُثمر حتى في دراسة بلدان تشهد، بحسب الاعتقاد الشائع، "انهيار الدولة"؟
فكرة وواقع "الجمهورية" طريقةٌ لتجسيد المثل العليا لمشروع سياسي مشترك، ليس لناحية مضمونه الموضوعي، إنما لناحية المبادئ الأساسية التي تشكّل الإطار لسياسة عدم السيطرة. أي يجب أن يحظى جميع المواطنين في الجمهورية بحقوق متساوية للمشاركة في صناعة مستقبلهم المشترك ضمن إطار من القوانين والمؤسسات (الدولة) ينبثق من المداولات العامة ويكون خاضعاً للمساءلة أمام الرأي العام. هذا هو الأمثل.
بالطبع، في تونس كما في أماكن أخرى، اختلف واقع السياسة ما بعد الاستعمارية إلى حد كبير عن المثال الأعلى الجمهوري. وجب الانتظار حتى 2010-2011 كي تعيد الأحداث تأكيد هذا المثال الأعلى في مواجهة من اختطفوا أشكال الجمهورية تحقيقاً لمآربهم الخاصة. تَظهر جاذبية "الجمهورية" من خلال السرعة والحماسة اللتين بادرت بهما دول أخرى في المنطقة إلى السير على خطى النموذج التونسي، من دون أن تكتفي فقط بتبنّي المثل العليا للجمهورية الضائعة، إنما شاركت أيضاً في إعادة صنع الرأي العام كقوة سياسية. مجدداً، كشفت دورة الأحداث المروّعة خلال الأعوام القليلة الماضية في ليبيا ومصر وسورية واليمن، أن التطلعات الجمهورية ليست كافية. بيد أن واقع أن هذه التطلعات لا تزال حاضرة بقوة تجلّى أيضاً في التظاهرات الحاشدة الأخيرة في سورية (منذ وقف إطلاق النار) واليمن ولبنان والعراق. اللافت هو أنه في كل هذه البلدان، احتاج الأمر إلى خلق حيّز (لفترة مؤقتة على الأرجح) كي يظهر الاحتجاج الجمهوري من جديد. لأسباب مختلفة، جرى تقييد هذه الحيزات وإغلاقها في ليبيا ومصر.
يعتبر كثرٌ أنه يعود لمؤسسات "الدولة القوية" في تونس الفضل في مساعدة البلاد على تجنّب حدوث أعمال عنف أوسع نطاقاً بعد العام 2011. إذا كانت "الدولة" أوثق ارتباطاً بالاستقرار في حين أن "الجمهورية" يُعاد تعريفها بصورة دائمة، هل يعني ذلك أنه من الأسهل على الحركات الشعبية بناء جمهورية جديدة بدلاً من إصلاح الدولة؟
كما في بلدان أخرى، كذلك الأمر في تونس، كانت استعادة أجزاء من الأجهزة المؤسسية في الدولة أقل سهولة.
ساهمت المؤسسات التونسية وتفاعل المواطنين التونسيين المعهود معها، في الحؤول دون سلوك الأمور منحى مختلفاً، لا سيما الحؤول دون وقوع أعمال عنف وحرب أهلية كما حدث في أجزاء أخرى من المنطقة. بيد أنه لا يجب الاعتبار بأن أعمال العنف والحرب الأهلية تتعارض مع الجمهورية. بل إن ما حدث في 2010-2011 هو السعي إلى جعل تلك المؤسسات خاضعة للمساءلة أمام الشعب وإعادة تأسيسها بالاستناد إلى المثل العليا الجمهورية التي من شأنها أن تجعلها متاحة للجميع بدلاً من أن تكون حكراً على قلّة قليلة. في هذا الصدد، كان لافتاً أن هذه الإجراءات لم تشمل المؤسسات الحكومية وحسب، إنما أيضاً المؤسسات غير الحكومية، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل الذي استعاد أعضاؤه السيطرة عليه – بعدما كانت قيادته مقرّبة من النظام القديم.
كما في بلدان أخرى، كذلك الأمر في تونس، كانت استعادة أجزاء من الأجهزة المؤسسية في الدولة أقل سهولة، لا سيما في حالة وزارة الداخلية التي تمسّك موظفوها بفكرة أنهم يمثّلون شكلاً من أشكال "الاستقرار" يضع ادّعاءاتهم فوق ادعاءات الباقين، وهم يعتقدون بالتالي أن الرأي العام خاضع للمساءلة أمامهم بدلاً من العكس. ثمة سلوكيات مماثلة مستمرة في إدارات أخرى في الدولة، كما في بعض أوساط حزب نداء تونس.
كتبتم أن التونسيين الذين يملكون رؤى مختلفة عن الجمهورية – بورقيبيين، وأتباع بن علي، وعلمانيين، وإسلاميين، وديمقراطيين اجتماعيين – اتفقوا حتى الآن على أن "الجمهورية، على الرغم من عيوبها المحتملة، تقدّم بديلاً أفضل من السيناريوهات" التي تنكشف فصولاً في المنطقة. إذا كان المثال الأعلى الذي تجسّده "الجمهورية" رائجاً في مختلف أنحاء المنطقة، هل عامل الفرق هو أن التونسيين ينجحون فعلاً في تجسيده؟
يتشاركون أفكار الحيّز السياسي. حتى لو كانوا يختلفون حول المادة التي يجب أن تملأ هذا الحيز أو حول الطريقة التي يجب أن يتصرف بها الأشخاص داخل الحيز، من حق جميع المواطنين التونسيين دخول هذا الحيز والمشاركة في النقاشات التي يحفّزها. لا يعني هذا أن جميع الأفرقاء يتبادلون الثقة، أو أنهم راضون عن أداء المؤسسات في الجمهورية، لكن مع ذلك، تبقى مزاولة السياسة ضمن هذا الإطار أمراً منطقياً. من الواضح أن هناك عوامل اجتماعية واقتصادية وأيديولوجية تلقي بضغوط شديدة في هذا المجال، لذلك لا يجب الافتراض بأن ما تحقّق في تونس محصّن من هذه الضغوط، ولا يجب التقليل من شأن المخاطر التي يمكن أن تُحدق بالجمهورية جراء ذلك. إلا أنه من المهم التوقف عند ماهية العوامل التاريخية أو المعاصرة التي منحت التونسيين هذه الفرصة لإعادة تعريف الحيز الجمهوري باعتباره حيزاً للخلاف السياسي الهادف إنما المقيّد بحدود بدلاً من أن يكون من دون حدود.