أكد الخبير العالمي في حل المنازعات الباحث الفلسطيني عز الدين أبو العيش أنَّ التهرب من المواجهة وانعدام المسؤولية هو التحدي الأكبر الذي يواجه العالم، وخصوصاً الأمة العربية والإسلامية، داعياً الإنسان العربي إلى أن يتعلم كيف يتحدى نفسه أولاً قبل أن يتحدى الآخرين، مشدداً على ضرورة التحلي بالصبر والتسامح لتحقيق الهدوء والطمأنينة والسلام داخل نفوسنا ولمن حولنا.
وقال أبو العيش في محاضرته التي نظمتها المؤسسة البحرينية للمصالحة والحوار المدني مساء أمس الأربعاء (13 أبريل/ نيسان 2016) والتي حملت عنوان (بناء جسور السلام من أجل الإنسانية ومحاربة الكراهية): "يجب أنْ نعرف ما نريده وما نهدف إليه مهما كانت التحديات"، داعياً إلى إبقاء الإنسان في دواخل الجميع لئلا تشط بنا الكراهية.
وبدأ بسرد تجربته ومعاناته الشخصية بقوله: "وُلدت وتربيت في مخيمات اللجوء والتشرد. لم أذق طعم الطفولة والحياة كمن وُلد ليكابد البؤس والألم"، مستدركًا: "كما زادت الحياة أوجاعي وآلامي ومعاناتي، فإن الحياة زادت من النضج والوعي والقوة والتصميم والإرادة بداخلي، ولم أسمح لكل الصعوبات أن تقتل أحلامي". وأضاف: "أدركت أن هذه المعاناة التي وُلدت فيها هي من فعل البشر، وأن كل ما نراه في هذا العالم من شرور فهو من فعل البشر، وأن حياتنا هي من صنع أيدينا، فكان لا بد أن أعمل بنفسي لأتغيّر وأغيّر"، مردفًا: "أعطتني الحياة نضجاً ومعارف مهمة لتحدي الواقع"، داعياً الجميع إلى العمل على التغيير لأن "لدى الجميع القوة والإرادة والصبر والعاطفة لتحقيق ذلك".
ثم استعرض عزالدين أبو العيش تجربته المريرة مع الحروب والكراهية والظلم والخوف، معتبراً أن الصراع والعنف نتيجة لعدم الثقة، وقال: "في الحرب ينعدم الأمل، فهي نهاية لكل جميل وبداية لكل تعيس، وهي وحش حقود جاهل يحاول التهام أشخاص وبيوت وأشجار وسماء"، متابعاً: "الحروب لا تستعر نيرانها في أجواف المدافع بل في قلوب الناس وأفكارهم أيضاً".
وأشار إلى ما عاناه من الحروب بفقده بناته الثلاث وابنة أخيه في لحظة واحدة بقذيفة إسرائيلية في 2009، وقال: "كأبٍ مجروحٍ فقد فلذات كبده: بيسان، وميار، وآية، وابنة أخيه نور، أشعر بمعاناة جميع البشر، وأفهم وأدرك معنى المعاناة وفقدان الأحبة ومفهوم السلامة والأمن". داعياً إلى وقف الكراهية والحروب وإراقة الدماء واستعادة الأمل المفقود من أجل مستقبل أفضل للجميع مبني على العدالة والحكمة والتفاهم والمصالحة. وتابع: "رأيت بناتي غارقات في دمائهن، رأيتهن أشلاء مقطعة، وأحمد الله أنني لم أفقد صوابي، وكانت الكلمة التي وجدتها مناسبة هي (يا الله، يا رب) بدلاً من الكراهية والرغبة في الانتقام"، وأردف: "لم أجد مخلِّصاً من آلامي ومعاناتي سوى الصبر والاحتساب"، مؤكداً أن الصبر قوة. وتابع: "كانت هذه المأساة سبباً في وقف إطلاق النار في اليوم التالي، وإنقاذ العشرات والمئات من الأبرياء".
ثم استعرض تجربته مع كتابه (لن أكره) الذي صدر في العام 2010 وتُرجم إلى 23 لغة، وقال: "توقع الناس أنني سأغرق في الحقد بسبب مأساتي مع بناتي، فأصدرت هذا الكتاب وفي هذا التوقيت"، لافتًا إلى أن "الكراهية نار تحرق حاملها، وهي المرض الصامت الذي يترجم إلى فوضى وعنف، مؤكداً أن الصمت والتسامح والمرونة وسائل مهمة وقوية، وهي تحتاج إلى قوة أكبر من القوة التي نحتاجها للانتقام، مضيفًا: "يجب أن نحرر أنفسنا من جهلنا، والحل في العلم والحلم وتحمل المسؤولية والعمل الصالح"، مشيراً إلى أن "التعليم هو سترة الإنقاذ لمواجهة جميع التحديات، ويعطيك الحرية والاستقلالية".
وتحدث أبو العيش عن مفهومي السلام والمصالحة، مشيداً بجهود المؤسسة البحرينية للمصالحة والحوار المدني في هذا الصدد، داعياً إلى تشجيع التطوع والعطاء في العمل الوطني والإنساني، مؤكداً في الوقت نفسه أهمية الوطن وقيمته، مطالباً الجميع بأن يسألوا أنفسهم عما قدموه للوطن قبل أن يسألوا عما قدمه لهم الوطن. واختتم محاضرته بدعوة البحرينيين جميعاً إلى التماسك والاتحاد والتعاون لبناء مستقبل أفضل للجميع.
ومن جانبه، قال رئيس مجلس الأمناء للمؤسسة البحرينية للمصالحة والحوار المدني سهيل غازي القصيبي في كلمة ألقاها في الفعالية: "أرى أنَّنا في أتون دواماتٍ قاتلةٍ من الكراهية، تهدِّد استقرارنا النفسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، تختطف منا الحياة، وتستنزف طاقات شبابنا في سُعارٍ كريهٍ ومدمِّر، وتسرق من أطفالنا براءة الطفولة وأحلام المستقبل، وتنتشر كالسرطان، تدمر الحضارات، وتشوِّه الديانات، وتمزق المجتمعات، وتهدد جوهر الإنسانية". وأضاف: "حتى جزيرتنا الهادئة، المعروفة بالتسامح والطيب والتعايش، لم تسلم من مخالب الكراهية والفتنة، فقد عصفت بنا الكراهية والتعصب والاستقطاب والطائفية. وكان أغلب ضحاياها هم شبابنا وأطفالنا مع الأسف الشديد"، متسائلاً عن كيفية التصدي لهذا "التسونامي" من الكراهية والمشاعر السلبية.
ودعا القصيبي إلى التسلح بالأمل، لافتاً إلى أن الأمل يؤدي إلى العمل الصالح والمنتج، والمبادرات المخلصة، وحتمًا سيؤدي إلى نتائج ملموسة. مناشدًا الجميع بالمبادرة والتحرك وعدم الجلوس مكتوفي الأيدي، مشيرًا إلى أن "الأمور لن تتحسن إلا أذا أدرك كل مواطن مسؤوليته تجاه بلده، واستوعب أن أي عمل مهما كان صغيراً سيكون له أثر على الوطن"، ومؤكداً أن "الأعمال الخيِّرة الصغيرة، الكثيرة، حتماً سيكون لها أثر تراكمي يعود بالخير على الجميع".
واستعرض رسالة المؤسسة البحرينية للمصالحة والحوار المدني وقيمها وأهدافها. موضحًا أن المؤسسة تضع نصب عينها التصدّي إلى موجات التطرف والكراهية، والصراعات الطائفية والأيديولوجية والإثنية. منبهاً على أن "التعاون والتعايش والسلام هي مرتكزات البناء والخير والتقدُّم، وهي المفهومات التي ينبغي العمل على ترسيخها في الناس لفتح آفاقٍ رحبةٍ". ودعا القصيبي إلى الانخراط في السياسة بمسؤوليةٍ ومنهجٍ رشيدٍ ورؤيةٍ جامعةٍ غير فئوية، وضمن الأنظمة والقوانين الموجودة، والعادات والتقاليد المرعية، وإلى تأسيس أو الانضمام إلى الجمعيات الخيرية وعدم الاستخفاف بأهمية المجتمع المدني ومؤسساته، وإلى العمل الدؤوب لخدمة قضايا المجتمع.
واختتم القصيبي كلمته بقوله: "علينا جميعاً الاختيار بين عناءين: عناء الانضباط في مساعدة الوطن وخدمته، أو عناء الندم فيما بعد"، معرباً عن ثقته في قدرة البحرين قيادةً وشعباً، على التغلب على كل التحديات، والازدهار على كل الأصعدة".
