مثل حكايات الأفلام الهوليودية هي حكاية التسريب الصحافي التاريخي بل قل الفضائحي لـ «وثائق بنما» أو «البنما-ليكس» السرية البالغ عددها 11.5 مليون وثيقة، والتي فجّرت قنبلة إعلامية هذا الشهر.
جاء التسريب صادماً وهو يكشف عن أسماء لقادة ورؤساء دول متقدمة ونامية وسياسيين كبار وأصحاب نفوذ مقربين من القيادات العليا ومشاهير من عالم المال والرياضة، جميعهم يستخدمون «ملاذات ضريبية» لثرواتهم خارج بلادهم تمثلت في شركة المحاماة «موساك فونسيكا» البنمية التي أمّنت خدمات قانونية واستشارية، وساعدت عملاءها في تغطية معظم عملياتهم المالية خارج بلادهم وجعلت بعضها يبدو كأنه يتعلق بتمويل للصليب الأحمر، وفتح حسابات مصرفية لشركاتهم المعروفة باسم «أوف شور»، بيد أن موقع «ويكيليكس» يشير إلى أن الشركة رفضت تأكيد تبعية الوثائق لها، وتقول بأنها تعمل منذ 40 عاماً وبمنأى عن اللوم أو توجيه أي اتهام بارتكاب مخالفات جنائية. في كل الأحوال الوثائق المسربة تفضح خطط المساعدة على الاحتيال وتبيض الأموال، وتجنب العقوبات والتهرب الضريبي.
غضب مجتمعي
الوثائق المسربة أحدثت زلزالاً هو قمة الجليد التي كان لها رجع صدى قوي، البعض وصفه بالـ«مؤامرة» التي ألحقت ضرراً كثيراً، ارتفعت على أثره الأصوات المطالبة بالشفافية العالمية، كما هزّت الأنظمة الحاكمة المتورطة في قضايا تهريب الأموال وتبييضها، ووضعت عدداً من قادة بعض الدول وساسته ومتنفّذيه تحت ضغط شعبي يطالب بالمحاسبة والاستقالة والمحاكمات وغرامات ضريبية بمليارات الدولارات. وثار المواطنون على المسئولين المتورطين في بريطانيا وفرنسا وأستراليا وإسبانيا وهولندا، ونتيجتها أطلقت تحقيقات، كما حدثت هزة سياسية في أيسلندا أدت لاستقالة رئيس الوزراء بعد الكشف عن إخفائه وزوجته ملايين الدولارات خارج البلاد. في المقابل لم يصدر أي ردّ فعل رسمي من بكين عن الثمانية أعضاء السابقين بالحزب الحاكم، وأقارب الرئيس الصيني ممن أخفوا ثرواتهم في شركات الأوفشور. والمفاجأة أنه تضمنت الوثائق أكثر من 600 شركة إسرائيلة متورطة.
الأكثر ضجة ممن شملتهم التسريبات، دول الاتحاد السوفياتي السابق، كأذربيجان وجورجيا وكازاخستان وأوكرانيا والرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه، رغم عدم ورود اسمه في أيٍّ من الوثائق، إلا أن ثلاثة من أصدقائه المقربين والموالين ممن يديرون أعماله المالية والتجارية تردّدت أسماؤهم.
الكرملين كان له موقف استباقي حذّر فيه قبل الفضيحة من «هجمة معلوماتية» غربية ستنشر معلومات لا أساس لها من الصحة، أما بعدها فأشار إلى أن أوراق بنما ما هي إلا مظهر من مظاهر «البوتين فوبيا»، وإن هذه الإدعاءات الباطلة ليست بالأمر الجديد، وهي محاولة لإضعاف روسيا قبل الانتخابات القادمة في سبتمبر/ أيلول. ماذا يعني ذلك؟
يعني أن هناك قلقاً وحذراً من حدوث احتجاجات بعد الانتخابات القادمة تماماً كما حدث في تظاهرات 2011 التي كان شعارها الأهم «الفساد في الكرملين»، إضافةً إلى تأثير الغضب الشعبي من ضعف الأداء الاقتصادي وتغلغل الفساد، حيث كشف استطلاع رأي لمركز «ليفادا» الروسي في فبراير/ شباط 2016 بان 51 في المئة من المشاركين في الاستطلاع يرون أن درجة الفساد المتغلغلة في أجهزة روسيا بالكامل كبيرة، كما يرى بعض المراقبين الروس بأن بوتين أخفق في وعوده بمكافحة الفساد في ولايات حكمه الثلاث، فيما يرى محللون آخرون أن الكرملين على رغم ذلك يحاول عن طريق إعلامه التركيز على تثوير النزعة الوطنية بإثارة موضوع الهجوم الغربي على روسيا لاسيما مع فرض العقوبات الغربية. في كل الأحوال إن صدق تورّط بوتين وهو على ما يبدو صحيح، فإن المفارقة تبدو أكثر فنتازية في الجانب الأميركي، كيف؟
اليد الخفية
ثمة مثل إنجليزي يقول:The elephant in the room we can›t ignore وترجمته «لا يمكننا تجاهل الفيل حين يكون في الغرفة»! نعم لا يمكن تجاهل أميركا الدولة العظمي أين هي من فضيحة البنما- ليكس؟ المراقبون أثاروا التساؤلات بشأن التفاصيل التي حُجبت ولم تشتمل على أي شخصية أو مؤسسة أميركية في الوثائق، الأمر الذي عزّز من نظرية المؤامرة بوجود أهداف سياسية.
في هذا الصدد، شكّك مدير مركز الدراسات الأميركية والعربية منذر سليمان في مقالة له بعنوان «تسريب انتقائي لأوراق بنما: اليد الخفية لأميركا» في انتقائية التسربيات مشيراً إلى النفاق الأميركي الذي ورد في تصريح مديرة المكتب الأميركي لمكافحة الفساد بالوكالة حين قالت: «لا ينبغي أن نكون ملعباً لأموال العالم القذرة، وإن الحكومة تشدّد من قيودها وإجراءات تعقّبها للأموال بالعملة الأميركية في الخارج»، ورأى سليمان أن الولايات المتحدة تتغاضى عن الاستثمارات الأجنبية المودعة لديها وشروطها السرية التي تسمح بالتهرب من الضرائب، منبهاً إلى أهمية النظر في الداخل الأميركي إلى البيانات الرسمية التي تؤشر إلى أن شركة آبل العملاقة للإكترونيات تحتفظ بنحو 187 مليار دولار نقداً في حسابات مصرفية أوف شور، مما يتيح لها التهرب من استحقاقات ضريبية بمليارات الدولارات.
وكذلك وكالة «بلومبيرغ» للأنباء المالية التي أشارت لاستخدام الأثرياء لولايتي نيفادا وساوث داكوتا كملاذ للتهرب من دفع الضرائب واتباع سياسة عدم المساءلة، بحجة «عدم اختراق السرية». كما تشير تقارير أخرى إلى تحديد هوية شخصيات وشركات أميركية متورطة ونحو 200 صورة لجواز سفر أميركي ضمن الوثائق، بعضهم من المتقاعدين الأميركيين الساعين لشراء عقارات في كوستاريكا وبنما، ونحو 3.500 مستثمرين في شركات خارج الحدود، ونحو 3.100 شركة مرتبطة بمهنيين في الاستثمار خارج الحدود ومقراتها في ميامي ونيويورك ومناطق أميركية أخرى، مبينةً أن بعض كبار الشخصيات الأميركية النافذة تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الزوجين كلينتون، وتدير استثمارات مالية لشركات أجنبية إحداها «مجموعة بوديستا»، التي يديرها الزوجان بوديستا، وبوديستا بالمناسبة أحد ممولي حملة كلينتون الانتخابية، وشقيقه جون ترأس الحملة الانتخابية.
كما يكشف موقع «ويكيليكس» النقاب عن التمويل المباشر للحكومة الأميركية والميلياردير جورج سوروس لهذه الوثائق، مشدّداً على ضرورة أن تنشر كامل قاعدة البيانات التي سرّبها الهاكر بدلاً من نشر مقتطفات منها وبشكل انتقائي.
غول السلطة والمال
أما بالنسبة للدول العربية بالطبع ليس مستغرباً ولا مستبعداً أن تشتمل التسريبات أسماء زعماء ومتنفذين ومسئولين عرباً في فضيحة البنما- ليكس، فقد تم تداول اسم رئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي إبان احتلال العراق في 2004-2005، وقريب الرئيس بشار الأسد ورجل الأعمال السوري رامي مخلوف، فيما فتحت تونس تحقيقاً بشأن تورط تونسيين بالتهرب الضريبي وتهريب الأموال من بينهم أحد المرشحين للانتخابات التونسية السابقة، والرئيس السابق للحملة الانتخابية لرئيس الجمهورية، حتى ذكر رئيس حركة النهضة التونسية بأن نتائج التحقيقات في أوراق بنما «ستغيّر المشهد السياسي في تونس». والله العالم عمن يملك الأرض وما عليها وتحرك سريعاً ودفع ملايين الرشاوي كي لا تكشف هويته في عمليات الفساد والتهرب الضريبي والشركات الوهمية وتبييض الأموال. صدى الفضيحة أكبر في الغرب بسبب الديمقراطية العريقة، ولكنه خافتٌ في بلداننا العربية بسبب غول السلطة وشحة الديمقراطية.
إلى هنا وبغض النظر عن ارتياب وتشكيك المراقبين بشأن التوقيت والأسباب ومن يقف وراء التسريبات، إلا إن أهمية الحدث تبيّن تأثير تزاوج السلطة والمال، وطبيعة السوق الحر وتفشي الفساد برعاية المنظومة الاقتصادية النيوليبرالية التي تفسح الدرب للأغنياء ليكونوا أكثر ثراءً، وتزيد من فقر الفقراء. أما الأكثر خطورة كون أغلب الشخصيات المتورطة هم من السياسيين وكبار رجال الدولة وأبنائهم وأقاربهم المتربعين في مناصب مهمة للشركات والمؤسسات المالية التي تشكل مصدراً من مصادر الفساد، ومن العاملين في القطاعات الأساسية للاقتصاد ورجال الأعمال ممن يمكنهم التعدّي على الأملاك العامة والأراضي والموارد الطبيعية، واستغلال شعوبهم وسلب ثروات بلادهم، فهم هنا أكثر من يمارس المحسوبية والمحاباة ويحتاج إلى التهرب من الالتزامات وتسجيل شركاتهم خارج البلاد تحسباً لأي ظروف سياسية معاكسة لهواهم ومصالحهم.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4967 - الثلثاء 12 أبريل 2016م الموافق 05 رجب 1437هـ
كشف هذا الموضوع لا يغير و لا يبدل أي شيئ ! كان و سيكون نفس الوضع مستمرا. سيجدون بدل بناما عشرة بناما. من يوم ما إخترع البشر النقود عملية سرقته و إخفائه و إستغلاله للعامة مستمر و سيستمر لأنه في صالح الغنى المتمكن المتسلط.