في جمعية عمومية لأحد البنوك المحلية التجارية الكبرى، كانت منعقدة في مطلع التسعينيات، وبعد أن انتهى سكرتير مجلس الإدارة من تلاوة توصيات المجلس عن أداء البنك للفترة الماضية، ومن ضمنها تخصيص عدة آلاف من الأرباح للأعمال الخيرية، انبرى أحد المساهمين، وهو مسن ذو هيئة غير مهذبة، لولا جرأته التي بدا واضحاً أنها مسنودة بحصة من الأسهم تستوجب على الإدارة الإنصات له وباحترام، لاعتقدت أنه متطفلٌ على الحضور، قائلاً: «ومن خوّلكم لتوزيع أموالنا بحسب ما ترونه»؟ واسترسل بحدةٍ قائلاً: «وما أدرانا كيف تنفق هذه الأموال، وهل تنفق لأجل عمل الخير أم في المجاملات ورعايات المناسبات»! وطالب الإدارة بتخصيص الأرباح لكل مساهم لينفقها على أوجه الخير الأقرب إلى نفسه.
هذه المخصّصات التي أغضب إدارة إنفاقها من قبل البنك، المساهم المسنّ، هي ما يطلق عليه اليوم «المسئولية الاجتماعية للشركات». وتعرّف بأنها الإحساس بالمسئولية تجاه المجتمع الذي تعمل فيه هذه المؤسسات والقيام بما يشبه «رد الجميل»، أو العطاء لهذا المجتمع، من أجل بناء علاقة إيجابية بين النمو الذي تحققه المؤسسات والنمو الذي ممكن أن تساهم به للمجتمع المحيط.
وتتنوع أشكال وأوجه العطاء للمجتمع، فإما أن تقوم المؤسسات بالمساهمة في أعمال تحقق التطوّر والنمو للناس والمجتمع، أو أنها ترفع ضرراً عن المجتمع أو البيئة. والتبرعات، الكلمة الكلاسيكية للمساهمة في إطار المسئولية الاجتماعية، لا تؤثر إيجاباً فقط على المجتمع والأفراد فيه، وإنما تعكس هذا العمل الخيري في صورة طيبة على المؤسسات نفسها، كما تؤثر إيجاباً على أدائها. وبحسب المنظمة الدولية للمعايير (آيزو) فإن العلاقة بين المؤسسة والمجتمع والبيئة المحيطة بها، تعتبر عاملاً مهماً في قدرتها على مواصلة العمل بفعالية، كما تقاس كمعيار للأداء في أحيان كثيرة.
ولا تقتصر المسئولية الاجتماعية على المؤسسات، وإنّما هي مسئولية كل فرد تجاه مجتمعه وبيئته المحيطة، ولا حصر لمجالات التعبير عن الإحساس بالمسئولية الاجتماعية بدءًا من المحافظة على الموارد، والعمل على حماية حقوق الإنسان بمختلف فئاته، والتطوّع للمساعدة في مجالات التنمية الاجتماعية المختلفة كالصحة والتعليم وأماكن الحاجة.
وأصبحت المدارس تنمّى هذا الجانب في طلبتها في المراحل الدراسية المختلفة، بتخصيص ساعاتٍ للخدمة المجتمعية، وربط هذه الساعات بالأداء المدرسي واحتساب الدرجات كي تحفّز الطلبة على بذل المزيد من أجل نيل الدرجات والتفوق، وفي الوقت نفسه تنمّي هذا الحس المجتمعي فيهم لكي يكون جزءاً من ممارساتهم، لما في ذلك من تأثيرٍ على جودة الحياة التي يخلقها حسّ المشاركة في تحمّل المسئولية الاجتماعية. ولذلك اعتبرت الأمم المتحدة حب المساعدة والتطوع في المجتمع من معايير قياس السعادة الثمانية للأمم المتحدة الذي أطلقت مؤشره قبل أربعة أعوام، إلى جانب المعايير الأخرى وهي الناتج المحلي الإجمالي، والدعم الاجتماعي الذي يلجأ إليه الأفراد وقت الشدة، ومعدل العمر، ووجود حكومة تتصدّى للفساد، والكرم الاجتماعي، والحرية لاختيار نمط الحياة المناسب، بالإضافة إلى قياس مؤشرات الشعور الإيجابي كالضحك والاستمتاع، ومؤشرات الشعور السلبي كالقلق والحزن والغضب.
وفي حين لا تتوفر إحصائيات عن حجم التبرع محلياً، حيث يأخذ التبرع طابعاً فردياً يحرّكه الدين في الغالب ومفاهيم التكافل الاجتماعي، فهو في الدول المتقدمة التي ترسّخت لديها مفاهيم المسئولية الاجتماعية أصبح عملاً مؤسساتيا منظماً.
وقدّرت «مؤسسة الخدمات الوطنية الأميركية» حجم أعمال خدمات المسئولية الاجتماعية التي تم القيام بها من قبل الأفراد في أميركا في العام 2013 بنحو 7.7 مليارات ساعة شارك بتقديمها للمجتمع نحو ربع سكان أميركا، وتعادل قيمة ما تم إنجازه نحو 173 مليار دولار أميركي. واحتسبت المؤسسة قيمة ساعة التبرع بنحو 230 دولاراً، أو ما يعادل 8 دنانير بحرينية.
محلياً وربما إقليمياً، حيث لايزال مفهوم المسئولية الاجتماعية غير راسخ بمعناه الملزم ذاتياً، سواءً على مستوى الأفراد أو المؤسسات، أخذت «جمعية البحرين للمسئولية الاجتماعية» المبادرة بالتوصية في مؤتمرها الأول الذي أنهى أعماله قبل أيام، لإنشاء محفظة يتم تمويلها عن طريق القطاع الخاص، على أن تتم إدارتها من قبل لجنة وطنية مستقلة تساهم في بناء مشاريع التنمية المستدامة، كما أوصت بإصدار قانون يلزم القطاع الخاص باستقطاع نسبة من الأرباح لدعم برامج التنمية المستدامة والتي تدار من قبل لجنة مستقلة. لكن وقبل كل ذلك ومن أجل تطمين أمثال المساهم المسنّ، بأن هذه الأموال التي ستجمع من أموال أفراد ربما اقتطعوها من معيشتهم ومن أرباح شركات تنازلوا عن الفرص البديلة لما ممكن أن تحققه هذه الأموال من أجل تنمية المجتمع، لابد من التأكيد على أن هذه الأموال ستُدار بنزاهةٍ، وتذهب فقط إلى مكانها الصحيح، بعيداً عن المجاملات والرعايات الباذخة والإنفاق على مطبوعات وإعلانات كما يحدث الآن في الكثير من الجمعيات التي تتسوّل التبرعات بشكلها النقدي الكلاسيكي لإصدار مجلات غير ذات نفع، ولا تسهم إلا بتزويد القمامة بالمزيد من الأوراق المصقولة.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 4967 - الثلثاء 12 أبريل 2016م الموافق 05 رجب 1437هـ
مقالاتك جميلة
شكرا الوسط التي اتاحت لنا قراءة قلمك الجميل
احب مقالاتك ومقالات سوسن دهنيم ايضا فكلتاكما نبراس للوسط ولنا كقراء
شكرا لكما
لو كان النظام الاقتصادي العالمي مبنيا علي أسس صحيحة و إنسانية , لما كان هناك محتاجا ينتظر المساعدة. النقود و البنوك هي أساس تفقير العامة و ما دام هذا النظام الاقتصادي علي حاله، فإن الفقر و الفقراء باقون.
المسئولية الاجتماعية لاتعني بالضرورة مساعدة الفقراء والمحتاجين بشكل مباشر. إنها إحساس عال بالمسئولية لتنمية المجتمع المحيط بالمؤسسة أو بالفرد والارتقاء به. وهناك دائما مساحة للتطور والتنمية في كل المجتمعات النامية والمتقدمة.
ومبادرات المسئولية الاجتماعية من الممكن أن توجه للأفراد أو للبيئة أو حتى لترسيخ قيم ومفاهيم لبناء مجتمع أفضل، وممكن اعتبارها أفضل استثمار اجتماعي لأنه عوائدها تعم الجميع.